كلما حلّ الثاني والعشرون من أبريل، أشعر كما لو أن الأرض قررت أن تهمس لنا، أن تذكّرنا بلغة الطمي والماء، بالريح التي تعبر السهول بلا حدود، وبالثلج الذي يذوب بصبر الحكماء فوق قمم الأطلس. يوم "أمّنا الأرض" ليس مجرد مناسبة أممية تُعتمد في أجندات الأمم المتحدة، بل هو وقفة ضمير كوني، تقف فيها الإنسانية أمام مرآة وجودها، لتتأمل ما اقترفته من خيبات في حق الكوكب الذي منحها المأوى والغذاء والحياة.
أنا ابن هذه الأرض
المغربية، تربيت على وقع الحكايات التي كانت جدتي ترويها لي عن "جبل يُغضب السماء
حين يُقتلع نباته"، وعن "وادٍ لا يفيض إلا عندما يُنسى اسمه". أدركتُ
مبكرًا، كما يدرك الفلاح لغة الطقس، أن علاقتنا بالطبيعة ليست علاقة ملكية، بل علاقة
وجدانية، تعاقد ضمني بيننا وبين أمّنا الكبرى، الأرض.
في مثل هذا اليوم،
يُعاد طرح الأسئلة الكبرى: كيف تحولت الأرض من معشوقة للشعراء إلى مشروع استثمار مفتوح؟
كيف أصبح الإنسان يقطع الغابات كما تُقطع أوتار العود، ويجرف الأنهار كما تُجرف الذاكرة؟
أهو الطمع؟ أم الغفلة؟ أم أننا ببساطة فقدنا القدرة على الإصغاء؟
لقد كتب الفيلسوف «بيير
رابحي» ذات مرة: "الإنسان لا يعيش في الأرض، بل يمر بها، ولكن مروره يجب أن يترك
أثراً جميلاً". لكننا اليوم نترك آثاراً من البلاستيك، من الكربون، ومن اللامبالاة.
في المغرب، ونحن نعيش
تحولات مناخية غير مسبوقة، من جفاف استثنائي إلى فيضانات مفاجئة، ندرك أن التغير المناخي
لم يعد وهماً يُناقش في مؤتمرات بعيدة، بل أصبح خبزنا اليومي. فحين تذبل الزراعة في
سوس، وتُهدد الواحات في الجنوب الشرقي بالانقراض، فإننا لا نتحدث فقط عن شؤون البيئة،
بل عن مستقبل الأكل، والماء، والثقافة، وعن مصير الإنسان نفسه.
أمّنا الأرض، بكل ما
تحمله الكلمة من حنان وقسوة، ليست فقط منبعًا للحياة، بل مرآة لخياراتنا. وحين يُحتفى
بها ليومٍ واحد في السنة، فإن السؤال لا ينبغي أن يكون: «ماذا نفعل في هذا اليوم؟»
بل بالأحرى: «ماذا فعلنا لبقية أيام السنة؟»
لقد دقّ ناقوس الخطر
منذ عقود، لكن ضجيج المدن والتكنولوجيا والتنافس المحموم جعلنا لا نسمعه. كتاب
"الربيع الصامت" للباحثة «رايتشل كارسون» في ستينيات القرن الماضي كان صرخة
مبكرة حول استخدام المبيدات وتأثيرها على البيئة، لكن من أصغى؟ من تراجع؟ من غيّر عاداته؟
إن الوعي البيئي ليس
ترفاً فكرياً، ولا مجرد تربية مدرسية تُلقّن في أقسام العلوم الطبيعية، بل هو مشروع
حضاري متكامل. في المدرسة، في الإعلام، في الأسواق، في الثقافة، في السياسات العمومية.
إن لم نُدرجه في صميم اختياراتنا، سنصحو يوماً على أرض لم تعد أمًّا، بل جثةً هاربة
من الزمن.
ومع ذلك، ما زال الأمل
ممكناً، تماماً كما تنبت زهرة برية في شقوق الإسفلت. فشبابٌ مغاربة اليوم يُطلقون مبادرات
بيئية محلية، من إعادة تدوير النفايات إلى حملات تشجير في قرى الأطلس، ومن مشاريع الماء
الصالح للشرب إلى صناعة الألبسة المستدامة. كل فعل صغير، مهما بدا بسيطاً، هو استعادة
لحق الأرض في أن تتنفس.
إن يوم أمّنا الأرض
فرصة لإعادة نسج العلاقة، لا فقط عبر الكلمات، بل بالفعل: لنقلل من البلاستيك، لنستهلك
بوعي، لنتصالح مع التوازن الطبيعي الذي ضيعناه. وكما نقول في ثقافتنا الشعبية: «اللي
ما كيصون أرضو، ما يصون عرضو».
قد لا تعود الطيور
التي هجرتها الغابات، وقد لا تُشفى الأنهار من تسممها سريعاً، لكننا نملك دائماً الحق
في المحاولة. في هذا اليوم، أكتب للأرض كمن يكتب لامرأة أهانها ثم قرر أن يستعيد حبها
من رماد الجحود. أقول لها: "اعذرينا يا أمّنا... لم نكن نعرف حجم خطايانا."
0 التعليقات:
إرسال تعليق