الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، مايو 08، 2025

فيل كولينس والطرب الصادق : عبده حقي


ها أنا ذا، جالسٌ إلى آلةٍ كانت رفيقتي في الليالي الطويلة. نعم، أنا فيل كولينز. وهذه الصورة ليست مجرد لحظة التُقطت بكاميرا، بل هي مرآة لرحلةٍ موسيقية بدأت من مقاعد الطفولة وانتهت بي إلى هذا الركن الهادئ، حيث تعيش الذاكرة على نغمات خافتة وأصابع مرتجفة.

في هذه الصورة، لستُ في حفل، ولا في استوديو صاخب، بل في غرفة تشبه الحنين: مقاعد جلدية قديمة، رفوف مكتظة بأسطوانات الفينيل التي شهدت انبعاث الأصوات الأولى، ونوافذ كبيرة لا تسمح فقط بمرور الضوء، بل تسمح أيضًا للأمل بأن يدخل دون إذن.

أنظر إلى الكاميرا كمن يهمس: "هل تذكر؟".

نعم، أذكر.

أذكر حين كان قلبي يدقُّ كأنّه طبلة.

أذكر يوم أمسكت العصا لأضرب أول إيقاع، وارتعد الهواء.

أذكر الأغنية التي غيّرت مجرى حياتي، وأذكر الدمعة التي نزلت حين غنّيت لأول مرة دون أن يكون خلفي أحد.

أمامي الآن لوحة مفاتيح أورغ كهربائي قديم، فيه أزرار بألوان الماضي: الأحمر، الأصفر، الأبيض، وكل مفتاح يشبه بوابة لحكاية. هذه ليست مجرد آلة موسيقية، بل بوصلة وجدان. كم مرة جلست أمامها وقلت للعالم: "أصمت قليلاً، لديّ ما أقول".

عندما تنظر إليّ في هذه الصورة قد ترى رجلاً تقدم به العمر، بملامح ملّت عدسات المصورين، بجسد أنهكته الجولات، وبرأس أصلع استراح من عناء التسريحات. لكن ما لا تراه هو الصوت الذي ما زال يغني بداخلي، هو الطفل الذي ما زال يدق على الطاولة بحثًا عن إيقاع جديد.

الغرفة التي أنا فيها ليست مسرحًا، لكنها في نظري أجمل من قاعة حفلات. فيها الصمت الذي أحتاجه الآن، فيها الكراسي التي لا تتصنع الانتباه، وفيها الكتب والصور التي لا تتزاحم. إنها غرفة الصدى، حيث لا تُقال الجمل الموسيقية بل تُستعاد.

أحب هذه العزلة، لأنها تسمح لي بأن أسمع نفسي من جديد.

لم أعد أبحث عن الضوء، بل عن الظلال التي تسكن ما بعد النوتة الأخيرة.

لم أعد ألاحق الشهرة، بل أبحث عن صدقٍ صغيرٍ في لحنٍ منسي.

في هذا المكان، أنا لست المغني الذي يعرفه الملايين، بل العازف الذي يسأل نفسه: "ماذا تبقّى من كل هذا؟".

لو مددتُ يدي إلى المفاتيح الآن، فلن أعزف لحنًا جديدًا، بل سأحرّك ذاكرتي، سأسمع وجوه أحببتها، سأرى الفرق التي رافقتني، وسأشعر برجفة أول حفل، أول انكسار، وأول صمت.

لقد تأمّلت وجهي في هذه الصورة، فوجدت التعب. نعم، هذا صحيح. لكن وجدت أيضًا نظرةَ امتنان. فالفن لا يتركنا فجأة، بل يتسلل تدريجيًا من أصابعنا، ثم يهاجر إلى أحلامنا، ثم يعود ذات ليلة على هيئة فكرة أو نغمة أو حتى دمعة.

أعرف أن بعض الجماهير لم تعد تراني كما كنت، وهذا طبيعي. فالصوت يتغير، والذوق يتبدل، والزمن لا ينتظر أحدًا. لكن ما لا يتغير هو علاقتي بهذه المفاتيح، بهذه الأوتار، بهذا الخشب الذي كان جسدًا للروح.

أغنيتي اليوم مختلفة. إنها أغنية بلا جمهور، أغنية لأجل الروح.

صوتي لم يعد يبحث عن الصدى، بل عن الصمت.

وإيقاعي لم يعد يتحدى الزمن، بل يواكبه برفق.

أصبحت أدرك أن المجد الحقيقي لا يوجد في عدد الحفلات أو مبيعات الألبومات، بل في لحظة جلوسٍ صامتة كهذه، في حضور بسيط إلى الذات، أمام آلةٍ عرفتُ من خلالها المعنى الأعمق للفرح والخذلان.

لو كانت هذه الصورة هي آخر ما يُعرف عني، فسأكون راضيًا.

راضٍ لأنني لم أخن الموسيقى يومًا.

راضٍ لأنني قلت ما أردت، بلغةٍ لم تكن كلمات، بل نغمًا وصوتًا وانفعالًا.

راضٍ لأن هذا الكرسي الذي أجلس عليه الآن، ليس عرش نجم، بل مقعد إنسان عاش أكثر مما كان يتوقع.

ربما سيتساءل البعض: أين الطبول يا فيل؟ أين الصخب؟ أين “In the Air Tonight”؟

وأجيبهم بابتسامة: تلك الأغاني ما زالت هنا، بين هذه الأصابع، في هذا القلب، وفي كل ركن من هذه الغرفة.

أنا لا أعتزل الموسيقى، بل أعيشها في شكلها النقي.

أنا لا أودّع الجمهور، بل أقول لهم: "استمعوا، لكن هذه المرة… إلى الصمت".

0 التعليقات: