في مستهل شهر مايو من سنة 2025، اندلعت في الجزائر عاصفة من الجدل السياسي والفكري كان بطلها الأستاذ الجامعي محمد الأمين بلقيد. فقد أثارت تصريحاته التي وُصفت بالعنصرية والمعادية للأمازيغية وللهوية الثقافية المتعددة للجزائر موجة غضب واسعة داخل الأوساط الأكاديمية والإعلامية. لم يكن الرجل مجرد أكاديمي يُدلي برأيه، بل تحول إلى نموذج مختزل لانحدار مستوى الخطاب الجامعي، ولاحتكار المنابر من طرف تيارات تنشر خطاب الكراهية والتفرقة.
في خضم هذه العاصفة،
لجأت وزارة التعليم العالي الجزائرية إلى إصدار مذكرة داخلية موجهة إلى رؤساء الجامعات
وأساتذة أقسام التاريخ، تنص على منع الأساتذة الجامعيين من الإدلاء بأي تصريح لوسائل
الإعلام الأجنبية دون إذن مسبق من الإدارة. تبرر الوزارة هذه الخطوة بالرغبة في
"الحفاظ على صورة المؤسسة الجامعية" وضمان "انسجام الخطاب الأكاديمي
مع توجهات الدولة".
إن هذه الخطوة قد قُوبلت
بانتقادات واسعة من مثقفين وحقوقيين وأكاديميين داخل الجزائر وخارجها. فهل أصبح الأستاذ
الجامعي في الجزائر موظفًا خاضعًا للرقابة السياسية، لا يحق له التعبير عن رأيه إلا
إذا صادقت عليه الإدارة؟ وهل يمكن تبرير تكميم الأفواه بحجج تنظيمية داخلية لا تستند
إلى أي نص دستوري أو قانوني واضح؟
الجامعة، بطبيعتها،
فضاء للبحث والنقد والتفكير الحر، لا مؤسسة بيروقراطية تابعة للحكومة. الأستاذ الجامعي
ليس ناطقًا باسم الدولة، ولا موظفًا في وزارة الخارجية، بل هو باحث مستقل، يساهم في
تحليل الوقائع ومساءلة التاريخ، ويحق له التعبير عن آرائه، ما دامت لا تدعو إلى العنف
أو الكراهية أو الإقصاء.
ولعل ما زاد الطين
بلة هو الربط المباشر في المذكرة بين "الخطاب الأكاديمي" و"الانسجام
مع التوجهات الرسمية للدولة"، وكأن المطلوب من الأكاديمي أن يتحول إلى بوق سياسي،
لا أن يكون باحثًا حرًا. هنا، لم يعد الأمر يتعلق بفضيحة فردية، بل بتحول خطير في العلاقة
بين الجامعة والسلطة، وبتقليص ممنهج لحرية الفكر داخل الحرم الجامعي.
الأخطر من ذلك، أن
هذه القرارات جاءت كرد فعل على شخص واحد — محمد الأمين بلقيد — الذي دأب منذ سنوات
على نشر أفكار وصفت بالعنصرية والتآمرية دون أن تتدخل الإدارة الجامعية سابقًا لوضع
حد لها عبر قنوات التأديب الأكاديمي. فبدل أن يتم التحقيق معه وفق ضوابط علمية ومهنية،
اختارت الوزارة أن تعمم العقوبة على الجميع، وأن تزرع الخوف في صفوف الأساتذة والباحثين.
إن ما يحدث هو انعكاس
واضح لأزمة عميقة تعاني منها الجامعة الجزائرية، حيث أصبحت التكوينات الأكاديمية تفتقر
إلى الجودة، والرسائل الجامعية تمر دون مراجعة أو تحقيق علمي جاد، والرقابة تنصب على
الأفواه بدل أن تنصب على المضامين العلمية. أصبحنا نرى "دكاترة" يعتنقون
نظريات المؤامرة، ويعيدون إنتاج خطاب العداء بدل البحث النقدي.
في هذا السياق، يصبح
من المشروع أن نتساءل: من الذي سمح لأشخاص يفتقرون للحد الأدنى من المنهجية الأكاديمية
أن يصبحوا أساتذة جامعيين؟ من يتحمل مسؤولية انحدار مستوى البحث العلمي؟ من يقف وراء
تحويل الجامعة إلى أداة دعائية بدل أن تبقى منارة فكرية؟
الجواب لا يكمن في
إصدار مذكرات منع، بل في تفعيل لجان علمية مستقلة تُقيّم الأداء الأكاديمي، وتُراجع
المضامين، وتُحاسب من يخل بأخلاقيات المهنة. فالبحث العلمي لا يقوم إلا على الحرية،
والمساءلة لا تتم إلا عبر أدوات علمية لا أمنية.
إن حرية التعبير ليست
امتيازًا ممنوحًا، بل حق دستوري أصيل، لا يجوز لأي إدارة جامعية أو وزارية أن تصادره
تحت أي مبرر. ما تحتاجه الجامعة الجزائرية اليوم ليس رقابة سياسية، بل إصلاحًا عميقًا
يعيد الاعتبار للبحث، ويرتقي بالتكوين، ويفصل بين المعرفة والدعاية.
ختامًا، فإن مناخ الخوف
والصمت لا يبني أوطانًا، ولا يُنتج معرفة، بل يراكم الاحتقان ويعوق أي نهضة علمية أو
فكرية. وعلى السلطات الجزائرية أن تدرك أن علاج الأمراض الفكرية لا يكون بالمنع، بل
بالتكوين الجاد، والحوار المفتوح، والنقد البناء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق