في زاوية معتمة من العلاقات المغربية الجزائرية، تبرز قضية جديدة تسائل الضمير الإنساني وتعيد فتح النقاش حول واقع حقوق الإنسان في السجون الجزائرية، ليس فقط في ما يخص مواطنيها، بل وأيضًا فيما يتعلق بمواطنين مغاربة تاهت أصواتهم بين الجدران الصامتة لمعتقلات لا تخضع لأي مراقبة دولية مستقلة.
المنتدى المغربي للديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو من أبرز الهيئات المدنية الفاعلة في الساحة الحقوقية الوطنية، دق ناقوس الخطر بعدما كشف عن وجود مغاربة، بعضهم من مدينة سيدي سليمان، يقبعون في سجون جزائرية دون أن تتضح ملابسات اعتقالهم أو طبيعة التهم الموجهة إليهم. ما يثير القلق بدرجة أكبر هو الأنباء الواردة من عائلات هؤلاء المعتقلين، والتي أفادت بأن أقاربهم يوجدون في سجن غرداية الشهير، وأنه قد تم تزويد منبر إعلامي موثوق مثل “هسبريس” بأسمائهم الكاملة وأرقام احتجازهم ومدد محكومياتهم.
لكن خلف هذه المعطيات
التقنية، تختبئ مأساة إنسانية صامتة، تتجسد في ظروف احتجاز قاسية، وعزلة شبه تامة عن
العالم الخارجي، بما في ذلك حرمان المعتقلين من التواصل مع أسرهم ومحاميهم. وهو أمر
لا يُعد فقط إخلالًا بالقوانين الوطنية الجزائرية ذاتها، بل خرقًا صارخًا للمعايير
الدولية المعتمدة من قبل الأمم المتحدة، وتحديدًا “مدونة قواعد سلوك الموظفين المكلفين
بإنفاذ القوانين” التي صادقت عليها الجمعية العامة في 1979، والتي تؤكد بشكل صريح على
وجوب احترام الكرامة الإنسانية وعدم استخدام التعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية
أو المهينة.
جواد الخني، رئيس المنتدى،
لم يتردد في تسمية الأمور بمسمياتها، حين وصف ما يحدث بأنه "انتهاك مُمَنهج للبروتوكول
الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب"، مشيرًا إلى عمليات نقل المعتقلين المغاربة
من سجن إلى آخر، في مناطق نائية مثل الأغواط وتيارت والبويرة وغليزان، بشكل يضاعف من
معاناتهم ويزيد من تعقيد تواصلهم مع العالم الخارجي. هذا التنقل القسري – الذي يتم
دون أسباب واضحة – يُفقد السجناء استقرارهم القانوني والاجتماعي، ويزيد من تعريضهم
لظروف احتجاز غير إنسانية، في سياق وصفه الخني بـ"العنصري واللاقانوني"،
ما يشير إلى شبهة تمييز على أساس الجنسية.
ولا يتوقف الأمر عند
البعد الوطني أو الثنائي بين المغرب والجزائر، بل يتجاوزه إلى فضاء أوسع: الفضاء الإفريقي
والدولي لحقوق الإنسان. إذ دعا المنتدى بشكل واضح ومباشر الأمم المتحدة، عبر أذرعها
الأساسية كالمفوضية السامية لحقوق الإنسان واللجنة الفرعية لمنع التعذيب، إلى فتح «تحقيق
دولي مستقل وشفاف» في هذه الانتهاكات، مع تحميل المسؤولية السياسية والجنائية لكل المتورطين
فيها، من إدارات السجون الجزائرية إلى كبار المسؤولين السياسيين الذين يتغاضون عن هذه
الخروقات.
المنتدى الحقوقي المغربي
لم ينسَ أيضًا البعد الإفريقي للمعاناة، حين أشار إلى أن ضحايا الانتهاكات لا يقتصرون
على المغاربة فحسب، بل يشملون معتقلين من جنسيات إفريقية أخرى، ما يكشف عن سياسة احتجاز
قائمة على ممارسات عنصرية وتهميشية في واحدة من أكثر دول القارة مناداة بمبادئ “التحرر
والسيادة”.
لذلك، وجه المنتدى
نداءه إلى اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، مطالبًا إياها بإدانة الفعل الإجرامي
وتشكيل لجنة تقصّي ميدانية لحماية الأشخاص المحرومين من حريتهم من التعذيب والمعاملة
المهينة. وقد تكتسي هذه الدعوة أهمية خاصة في السياق الإفريقي الحالي، حيث يشهد الاتحاد
الإفريقي نوعًا من التحول في اهتماماته، من التركيز على النزاعات العسكرية إلى وضع
حقوق الإنسان في قلب أولوياته المؤسساتية.
إن هذا الملف، وإن
بدا في ظاهره مسألة إنسانية تخص بضعة معتقلين، فإنه في عمقه يكشف أزمة سياسية بين بلدين
جارين لم ينجحا بعد في تجاوز تراكمات التاريخ. فالجزائر التي ترفع شعار السيادة والكرامة
في المحافل الدولية، مطالبة اليوم بالانفتاح على المحاسبة الدولية، والقبول بمبدأ التحقيق
المحايد، وإثبات مصداقيتها الحقوقية من خلال تمكين لجان دولية مستقلة من زيارة مراكز
الاحتجاز والسجون، وتوثيق وضعية المعتقلين الأجانب لديها.
أما المغرب، فعليه
أن يواصل تعبئة المجتمع المدني والمؤسسات الدبلوماسية لتدويل هذا الملف، بعيدًا عن
اللغة الانفعالية، بل بمنطق الحقوق الدولية، والالتزامات الثنائية، والآليات الأممية
والإفريقية. فصرخات المعتقلين المغاربة في السجون الجزائرية لا يمكن أن تظل صرخة في
الفراغ، ما دامت هناك منابر حرة، وهيئات مدنية، وأصوات دولية لا تزال تؤمن أن العدالة
تبدأ من أصغر الزنازين.
وهكذا، تصبح قضية هؤلاء
المعتقلين اختبارًا حقيقيًا للمنظومة الدولية لحقوق الإنسان، ولمدى جدية المنظمات الإقليمية
في حماية الأفراد من تعسف الدول. فإما أن يتم التحرك بحزم لكشف الحقيقة وإنصاف الضحايا،
أو يُضاف هذا الملف إلى قائمة طويلة من الجرائم التي ضاعت بين الحسابات السياسية والصمت
الرسمي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق