الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، مايو 27، 2025

ترجمةٌ تتعدّى اللغة: قراءة مغربية جديدة لـ"مهمة المترجم" لفالتر بنيامين


من الرباط، وعلى ضفاف لغة تنصت إلى نفسها وهي تتكلم بلغة الآخرين، تطلّ ترجمة جديدة لأحد أكثر النصوص الفلسفية تعقيدًا وتأثيرًا في نظرية الترجمة الحديثة: "مهمة المترجم" للفيلسوف الألماني فالتر بنيامين، في إصدار عن مؤسسة بيت الزبير. هذا العمل الذي لا يُقرأ باعتباره نصًا في الترجمة فقط، بل كوثيقة ميتافيزيقية تقارب جوهر اللغة نفسها.

الدكتور أحمد بوحسن، أستاذ الدراسات النقدية والثقافية بجامعة محمد الخامس – أكدال، صاحب هذه الترجمة، لا يقدّم لنا نسخة إضافية بقدر ما يقترح تأويلاً معرفيًّا متعدّد الأبعاد. انطلق من النص الأصلي بالألمانية، ومن ترجمات إنكليزية وفرنسية، كما انفتح على ترجمات عربية سابقة، أبرزها تلك التي أنجزها حسين الموزاني، وأخرى غير منشورة لرضوان ضاوي. وقد راجعت العمل النهائي الباحثة رضوى الضاري، في ما يشبه إشرافًا علميًّا ثلاثيَّ الزوايا.

يصف بوحسن ترجمته بأنها “ترجمة ثلاثية متعدّدة الوجوه لنصّ فلسفي شديد الصعوبة”، وهذا التوصيف لا يعكس فقط تعقيد بنيامين اللغوي والمفاهيمي، بل يُفصح عن مشروع فلسفي خاص في الترجمة، لا ينحصر في نقل المعاني وإنما في خلق تقاطع لغوي يعيدنا إلى فكرة "اللغة الحقّة"، تلك التي يرى بنيامين أنها تختزن المعنى الكامل، كما تحلم به الفلسفة.

"مهمة المترجم" ليست نصًا تقنيًا، بل بيانًا فلسفيًّا حول ماهية اللغة، وهيمنة المعنى، ومفهوم الصدى الأصلي الذي ينبغي أن تلتقطه الترجمة لا أن تكرّره. ففي منظور بنيامين، الترجمة الحقيقية لا تعيد إنتاج النص، بل تكشف ما يسكنه من إمكانيات لغوية عابرة للتقنين. الترجمة، بهذا المعنى، تصبح فنًّا من نوع آخر، ليس خاضعًا لبلاغة الأصل، بل مكشوفًا على إمكانيات الفهم المعلّق.

هذه الرؤية الفريدة، كما يوضح المترجم، تجعل من إعادة ترجمة هذا النص ضرورة فكرية لا تمرينًا لغويًا، فكل لغة تحمل إمكانية خاصة للوصول إلى نبرة الحقيقة، وكل ترجمة تضيف انزياحًا جديدًا يقرّبنا أكثر أو يبعدنا، لكنّها تبقى على كل حال، جزءًا من مسار التقاطع مع المعنى المتعالي.

بنيامين، أحد رموز مدرسة فرانكفورت النقدية، كان دائم القلق تجاه المعنى، يبحث عنه في البنية واللغة والرمز، لا في القواعد وحدها. وهو الذي ترجم أعمال بلزاك وبودلير وبروست إلى الألمانية، مدفوعًا، ربما، بالرغبة في كشف الشقوق الدقيقة بين لغتين لا تلتقيان إلا على أرض ثالثة: أرض الترجمة.

إن إعادة تقديم هذا النص، من خلال عدسة مغربية معرفية، تحمل دلالة خاصة. فهي ليست فقط مشاركة مغربية في النقاش العالمي حول الترجمة، بل امتداد لمساهمة فكرية تُعيد طرح الأسئلة الكبرى من موقع الجنوب: ما الذي نترجمه حين نترجم؟ وهل المعنى مِلك للغة الأصل أم يُولد من جديد في اللغة الهدف؟

بهذا العمل، ينضم الدكتور أحمد بوحسن إلى مسار طويل من التلقي العربي للنصوص الفلسفية الكبرى، لا بوصفه ناقلًا فحسب، بل بوصفه مؤوِّلًا يُعيد تشكيل النص في فضاء عربي له خصوصياته الثقافية واللغوية. وهي خصوصيات ليست على هامش الفلسفة الغربية، بل في حوار حيّ معها، يُغنيها ويُربكها أحيانًا.

لذلك، فهذه الترجمة لا تُضاف إلى المكتبة العربية كمجرد عنوان جديد، بل كتجربة تفكيك وإعادة بناء لمفهوم الترجمة نفسه، في زمن تتصارع فيه اللغات على المعنى، ويبحث فيه القارئ عن "اللغة الحقّة"، وسط ضجيج التأويلات السريعة.

الترجمة، إذن، ليست همًّا لغويًّا فحسب، بل هي أحد أشكال الفلسفة المعاصرة، ومفتاح لفهم هشاشة ما نعتقد أنه ثابت: الحقيقة، اللغة، المعنى. وفي هذا السياق، تُصبح "مهمة المترجم" لفالتر بنيامين، كما يقدّمها الدكتور بوحسن، مرآة لتأمّل الذات وهي تُنصت إلى الآخر، وتحاول أن تقول بصوته ما لم تستطع قوله بلغتها.


0 التعليقات: