أسترجع أحياناً مشهد مراهقتي وأنا أقرأ بصمت في ركن منزلي كتاباً لنزار قباني، غارقاً في التراكيب الشعرية، ممسوساً بإيقاع اللغة، ملتقطاً في كل سطر غبار المعاني وألم الحب الأول. لم أكن أدرك آنذاك أن ذلك الطقس الهادئ، سيُهدد يوماً بصخب "الريلز" ووميض "الستوري"، وأن الكلمة، تلك التي كانت تُكتب بمداد الصمت، ستتحول إلى "فلتر" تزين به فتاة نصاً مكسور الإيقاع على منصة تيك توك.
ليس في الأمر ازدراء
للمستجدات، بقدر ما هو محاولة لفهم هذا التحول الجذري في بنية التعبير الثقافي. لقد
بات من الواضح أن فضاء الإنترنت لم يعد مجرد وسيط ناقل للنصوص التقليدية، بل أصبح يصنع
أنماطه التعبيرية الخاصة، مدمراً في طريقه كل ما يُشبه التسلسل، العمق، أو حتى النحو.
من هذا المنطلق، ظهر تيك توك كمثال صارخ على كيفية تحوّل الحروف إلى مؤثرات، والجمل
إلى حركات، والمعاني إلى تفاعلات سريعة محكومة بثوانٍ.
لقد تحدث والتر أونغ
في كتابه
“Orality and Literacy” " "الشفوية ومحو الأمية" عن الفرق بين الثقافة الشفوية والثقافة
الكتابية، موضحاً كيف غيّر الانتقال إلى الكتابة طبيعة التفكير الإنساني ذاته. واليوم،
يمكنني القول إننا نعيش تحوّلاً جديداً، ليس من الشفاه إلى القلم، بل من القلم إلى
"الستوري"، ومن التأمل الطويل إلى الاستهلاك اللحظي. ما يشبه "الاستعراض
الذهني"، لا الفكر. إننا نشهد، بحسب تعبير نيكولاس كار في كتابه *"The
Shallows"*،
" "المياه الضحلة"عودة العقل البشري إلى البُعد السطحي، كأننا نسبح
على سطح بحر المعنى دون أن نغوص فيه.
وما يثيرني، كمغربي
نشأ في حضن لغة الشعر وسحر الحكي، هو كيف دخل هذا التحول الرقمي إلى نسيجنا الثقافي
دون مقاومة تُذكر. لقد أصبح الشاب المغربي يتناول قضايا الهوية، الحب، والدين عبر
"تحديات" تيك توك، يتراقص على أنغام ترندات عالمية، يُحوّل الألم إلى
"ميم"، والذاكرة إلى لقطة مشوشة لا تتجاوز 15 ثانية. فهل هذه فعلاً ثورة
في التعبير، أم هي فقط إعادة إنتاج للابتذال في حُلة جديدة؟
بعض الباحثين، كجون
باتشيت في مقالاته عن "السوشيال ميديا والأدب"، يرون في هذه التحولات نوعاً
من "الديمقراطية الثقافية"، حيث لم يعد التعبير حكراً على النخبة. صحيح،
لكن ماذا عن الجودة؟ ماذا عن العمق؟ هل صارت المعاني رهينة لمن يرقص بشكل أفضل أو يصرخ
بصوت أعلى؟
لقد بدأت تظهر تجارب
أدبية تعتمد على خصائص تيك توك: قصة تُروى في ثلاث ثوانٍ، أو قصيدة تتمايل على أنغام
موسيقى حزينة. نوع جديد من الأدب، قد لا يعترف به النقاد، لكنه يفرض نفسه بقوة الجماهير.
هل هذا انحطاط أم تطور؟ لست متأكداً. لكنني أعلم أن زخم الصورة بات يتفوق على سلطة
الكلمة.
لقد طُرد النص من عرشه.
لم يعد الحرف مركز العالم. صار هامشاً يتوسل التفاعل، يطلب "لايكاً" و"شيراً".
والكارثة أن المنصات الذكية باتت تتحكم في انتشار الأفكار لا بجودتها، بل بمدى قابليتها
لأن تُختصر في لقطة مشوّقة. الفكرة لا تقاس بقيمتها المعرفية، بل بسرعة انتشارها. كأن
المعرفة أصبحت تسكن خوارزميات لا تقرأ، بل تحسب.
ومع ذلك، لا أنكر أن
بعض المبدعين استطاعوا تطويع هذه المنصات لصالح التعبير الجاد. هناك من جعل من تيك
توك وسيلة لنشر الفكر الفلسفي، ومنهم من ابتكر أشكالاً سردية جديدة. ما يشبه
"شعر الصورة"، أو "رواية العين". وربما هذا ما كان بودريار يقصده
حين قال إن الصورة ابتلعت الواقع، وصارت هي الحقيقة.
كل ما أرجوه اليوم،
ككاتب مغربي يُؤمن بقوة الكلمة، أن نعيد التوازن بين التفاعل والعمق، بين الجاذبية
الفورية والتأمل البعيد. علينا ألّا ننسى أن التكنولوجيا ليست قدراً، بل أداة. وأننا
لسنا مجبرين على أن نرقص كي نُفكّر، أو نصرخ كي نُعبّر. فربما، في زحمة هذه الشاشة
الصغيرة، لا تزال هناك فسحة للمعنى. وربما، كما يقول محمود درويش، "على هذه الأرض
ما يستحق الحياة"... وحتى الكتابة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق