منذ أن بدأت أستهلك الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تغيّر كل شيء: العناوين لم تعد تنتمي إلى الصحف، بل إلى خلاصة حسابي الشخصي، وألوان الرأي لم تعد طيفًا واسعًا، بل تكرارًا مُتتابعًا لما يُشبهني. لم أفهم فورًا هذا التحول، لكنني بدأت أُدركه حين شعرت أنني أعيش في صدى صوتي، أُعيد سماع ما أؤمن به دون أن أُدرك أن ما يُعرض أمامي ليس صورة للواقع، بل صورة لما تُقرّره خوارزمية ما.
الخوارزميات اليوم
هي محرّر الأخبار الأول. لا يُهمّ إن كنتُ أتابع صحيفة يسارية أو قناة محافظة؛ ما يُحدّد
ما يظهر لي على فيسبوك أو تويتر أو إنستغرام، هو ما يتوقعه الذكاء الاصطناعي أن يُرضيني
أو يُثيرني. كما أوضح إيلي باريزر في كتابه "فقاعة التصفية" The Filter
Bubble،
2011، فإن هذه الخوارزميات لا تُقرّر بناءً على الجودة أو التنوع، بل على القابلية
للانخراط والتفاعل. هذا يعني أن الخبر الذي يثير غضبي أو خوفي، حتى وإن كان زائفا،
سيصلني قبل أي تقرير تحليلي متزن.
أتذكّر كيف تغيّرت
متابعتي لأخبار المغرب بعد حراك الريف، ثم بعد الجائحة. المحتوى الذي بدأ يظهر لي لم
يكن يعكس تعدد زوايا النظر في الإعلام الوطني والدولي، بل كان يتكثّف شيئًا فشيئًا
نحو تيارات محددة، بعضها يهيّج، وبعضها يُطمئن، ولكن قليلًا ما بينها ما يُفسّر أو
يُحلّل. وكأنّ الخوارزميات تعيد تشكيل المجال العام، لا عبر مناقشة الأفكار، بل عبر
تغذية الانفعالات.
تأثير هذه الخوارزميات
لا يتوقف عند حدود الفرد، بل يمتد إلى البنية العامة للمشهد الإعلامي. في تقرير نشرته
منظمة
مراسلون بلا حدود سنة
2023، تم التنبيه إلى أن اعتماد المستخدمين على الشبكات الاجتماعية كمصدر أساسي للأخبار
أدّى إلى تراجع النماذج التقليدية للإعلام القائم على التحقق والمهنية. الإعلام المستقل
بات مضطرًا لمجاراة خوارزميات «ميتا» و»تيك توك» ليصل إلى جمهوره، وهو ما يُحيل الصحافة
من مهنة للتحقيق إلى حرفة صناعة المحتوى السريع والمرئي والمثير.
لا أتحدث هنا بلغة
النوستالجيا، فأنا ابن هذا العصر الرقمي. لكن لا بد من الاعتراف بأن التنوع الذي وعدتنا
به التكنولوجيا أصبح يُعاد تشكيله إلى فقاعات متوازية، لكل فئة محتواها، ولكل فرد عالمه
الخاص. هذه الانعزالية المعلوماتية لا تُهدد فقط الحق في الوصول إلى المعرفة المتنوعة،
بل تُقوّض إحدى ركائز الديمقراطية نفسها: النقاش العام.
لقد كتب «كاس
سنشتاين»
في موقع «Republic.com» أن الديمقراطية لا تزدهر حين يُحاصر المواطن
بما يحب سماعه فقط. التنوع ليس ترفًا، بل ضرورة. وإذا كانت الخوارزميات تُبرمج لتغذية
"الاهتمامات"، فإنها في الحقيقة تُحوّل الاهتمام إلى عادة، والعادة إلى انغلاق.
في المغرب، نرى آثار هذا التحوّل في الطريقة التي يتناول بها الرأي العام مواضيع مثل
الحريات، القضية الوطنية، أو حتى الاقتصاد؛ حيث يتحوّل الخبر إلى "ترند"،
و"الترند" إلى رأي جمعي، دون المرور بمحطة التفكير النقدي.
ومع ذلك، لا أرغب في
تحويل هذا المقال إلى خطاب شكوى. فالخطر لا يكمن في التقنية ذاتها، بل في غياب الشفافية
والمساءلة عن آليات عمل هذه الخوارزميات. لماذا لا نعرف كيف تُصنّف أولويات الأخبار
على فيسبوك أو يوتيوب؟ ولماذا لا نملك أدوات تُتيح لنا استعادة التحكم في تدفق المعلومات؟
إن الحل، في نظري،
يبدأ من التربية الإعلامية. نحن بحاجة في المغرب، وفي العالم العربي عموماً، إلى برامج
تعليمية تُدرّس الشباب كيف يقرأون ما وراء العنوان، كيف يُشككون في المنصات الرقمية،
وكيف يُعيدون بناء علاقتهم بالخبر. كما أننا بحاجة إلى صحافة مقاومة لا تنحني لقوانين
الخوارزميات، بل تُبدع في طرق إيصال محتواها رغم كل شيء.
إن الخوارزميات ليست
قدَرًا لا يُردّ. إنما هي انعكاس لأولويات من صمّموها، ويمكن إعادة تشكيلها إذا تغيّرت
هذه الأولويات. لكن حتى يحين ذلك، سأواصل طرح السؤال: أيّ أخبار نعرف، وأيّ أخبار لا
نعرف، ولماذا؟ لأن المعرفة لا تكمن في ما نراه فقط، بل في ما نُمنع من رؤيته.
0 التعليقات:
إرسال تعليق