الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، يوليو 14، 2025

كيف تُعيد الألعاب الإلكترونية تشكيل الحكاية الإنسانية: ترجمة عبده حقي


إن الحكاية ليست حكرًا على الورق أو الشاشة، بل كائن حيّ يجد أشكاله في كل وسيط تعبيري جديد. وهذا ما شعرت به تمامًا وأنا أتعمق في ظاهرة الألعاب الرقمية باعتبارها فضاءً سرديًا مغايرًا، يحمل في طيّاته إمكانيات غير مسبوقة لإنتاج المعنى والتفاعل معه. ليست اللعبة مجرد أداة للترفيه أو الإدمان، بل نصٌّ مفتوح على التأويل، شبكة معقدة من القرارات والنتائج، وخريطة روائية تتفرّع مع كل اختيار يقوم به اللاعب.

لقد أدركت أن العالم الافتراضي لم يعد مجرد خلفية بصرية أو بيئة للتحدّي، بل تحوّل إلى مساحة روائية بامتياز. في لعبة مثل «The Witcher 3» أو «Red Dead Redemption 2»، لا يُدفع اللاعب إلى الانتصار فقط، بل إلى التفكير، والتفاعل، واختبار مشاعر متضاربة، تشبه تمامًا ما تفعله الرواية العظيمة. لقد صار السرد في الألعاب اليوم لا خطيًا، تشعبيًا، متفاعلاً؛ وهو ما يتقاطع بعمق مع نظريات النص المفتوح كما طرحها «أمبرتو إيكو»، أو مفاهيم «النص الفائق Hypertext كما طوّرها جورج لاندو».

إن هذا التحوّل في طبيعة الحكاية يدعونا إلى إعادة النظر في مفاهيمنا حول "الراوي"، "البطل"، و"الزمن السردي". في الألعاب، لا يوجد راوي واحد، بل هناك شبكة من الأصوات، قد تكون البرمجة ذاتها راويًا، أو اللاعب، أو حتى البيئة التي تتحدث بلا كلمات. ولعل أفضل مثال على هذا هو لعبة «Journey» التي تخلّت عن اللغة كلغة، وراهنت على الموسيقى والصورة والحركة، ومع ذلك استطاعت أن تحكي قصة مؤثرة عن العزلة والتلاقي والهدف.

لقد أدت هذه الطفرة السردية إلى ظهور تخصصات أكاديمية جديدة، مثل

«Game Studies» و»Ludonarrative Theory»، والتي تسعى إلى تحليل كيف تتداخل عناصر اللعب (Ludic) مع البنية السردية. الباحث «جيسبر جول» في كتابه "Half-Real" بيّن ببراعة كيف أن اللعبة تقع بين الحقيقي والمتخيل، بين القواعد والحرية، بين التحكم والانفلات، وهذا ما يمنحها ذلك السحر الفريد.

لقد شعرت وأنا أتعمق في هذا المجال أن ما يحدث داخل هذه العوالم الرقمية يشبه إلى حد بعيد "الأسطورة الحديثة". لعبة  God of War، على سبيل المثال، ليست مجرد لعبة عن قتال ودماء، بل إعادة كتابة للأساطير الإغريقية والنوردية بمنظور وجودي، تتأمل في علاقة الأب بالابن، في مصير الإنسان، وفي أسئلة القدر والاختيار.

اللاعب هنا ليس مستهلكًا سلبيًا، بل منتج فعّال للمعنى. ومع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق، بدأت بعض الألعاب في توليد محتوى سردي جديد في الوقت الفعلي، مما يعني أن القصة لم تعد مكتوبة سلفًا، بل تولد مع كل جلسة لعب. وهنا أستحضر مشروع  AI Dungeonالذي يتيح للاعب كتابة عالمه الخاص، والتفاعل مع سرد حيّ يولّده الذكاء الاصطناعي، وكأننا نعيش في مختبر روائي مفتوح لا سقف له.

لكن، وككل طفرات تقنية، يبرز السؤال الأخلاقي: من يملك هذا السرد؟ من هو المؤلف الحقيقي؟ وما مصير حقوق الملكية الفكرية في قصة تُنتجها الخوارزميات أو تُبنى على تفاعل جماعي؟ إنها أسئلة تشبه إلى حد بعيد النقاشات الدائرة حول الأدب الرقمي، والتي ناقشها الباحث «سكوت ريتشاردسون» في دراسته حول "السرد التفاعلي وتحوّل الهوية المؤلفية".

لا أنكر أن هذه الأسئلة تربكني أحيانًا، خاصة ككاتب تشكّل وعيه داخل النصوص الورقية الكلاسيكية، حيث كنت أتحكم بكل شيء، من أول كلمة إلى آخر نقطة. أما هنا، في اللعبة، فإن القصة تفلت من قبضتي، لكنها في الوقت ذاته، تتنفس حياة جديدة، وتسمح بتجارب لا يمكن تحقيقها في أي وسيط آخر.

لقد بدأ عصر جديد من الحكاية، لا ينفي القديم، بل يعيد تأويله. وربما آن الأوان أن ننظر إلى الألعاب لا بوصفها تهديدًا للأدب أو السينما، بل شريكًا في الحفر العميق داخل وجدان الإنسان، وفي إعادة صياغة الأسئلة القديمة: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ وما الحكاية التي نرغب حقًا في أن نعيشها؟

في النهاية، أدرك أن اللعبة ليست مجرد فضاء افتراضي... إنها دعوة للغوص في الوجود ذاته، عبر شاشة مضيئة، وأزرارٍ تقودنا إلى متاهات الذات والآخر، حيث تصبح الحكاية لعبة، واللعبة حكاية.

0 التعليقات: