في قلب نادٍ خاص بمدينة سان فرانسيسكو، تتخفى تحت درج داخلي لوحة ضخمة رسمها دييغو ريفيرا تُعرف باسم "رمزية كاليفورنيا". في وسطها، تقف امرأة شامخة تُجسد "روح كاليفورنيا" كما تصورها الفنان: مانحة الخيرات، وحاملة وعود التقدم التي يجسدها الرجال العاملون حولها.
غير أن هذه الصورة التي تبدو للوهلة الأولى تجسيداً لحلم أمريكي، تخفي وراءها جذورًا أعمق، تمتد إلى الحروب الأندلسية وصراعات البحر الأبيض المتوسط. فالشخصية التي استلهم منها ريفيرا لوحته لم تكن مجرد تجسيد للرخاء الغربي، بل تعود في أصولها إلى ملكة مسلمة محاربة من جبال المغرب تسمى: السيدة الحرة.
في القرن السادس عشر،
دوّن الكاتب القشتالي غارثي رودريغيث دي مونتالفو رواية فنتازية بعنوان «مغامرات إيسبلنديان»،
ظهرت فيها شخصية خيالية تُدعى الملكة كالفيا، قائدة جيوش نسائية من أرض بعيدة غنية
تُدعى "كاليفورنيا". وقد قادت هذه الملكة المسلمة معارك بحرية ضارية ضد الإسبان،
الذين صوّرهم الكاتب كحملة للخير والدين المسيحي.
ورغم أن الرواية تُصنف
ضمن أدب المغامرة، إلا أن باحثين يعتقدون أن مونتالفو استوحى شخصية كالفيا من السيدة
الحرة، الحاكمة المستقلة لمدينة تطوان شمال المغرب، التي تحولت بعد نفيها من الأندلس
إلى زعيمة بحرية بثأر شخصي ضد التاج الإسباني. شنت غارات على المرافئ الإسبانية، وتعاونت
مع خير الدين بربروس، القائد العثماني الشهير، في محاربة الأساطيل الأوروبية.
لكن القصة الحقيقية
انتهت كما تنتهي غالباً حكايات النساء القويات في كتب التاريخ: أُطيح بالسيدة الحرة
من عرشها على يد صهرها. أما كالفيا الروائية، فتم أسرها وتنصيرها وزُوّجت، ثم عادت
إلى بلادها بعد أن تخلّت عن مبادئها النسوية، معلنة خضوع أرضها لقيم السلطة الذكورية
المسيحية.
هذا التحول لم يكن
محض خيال. فقد صدّر الإسبان، وهم في أوج انتصاراتهم على المسلمين، هذا الرمز الأنثوي
"المروّض" إلى العالم الجديد. وعندما رأى هيرنان كورتيس ساحل المحيط الهادئ
عام 1536، أطلق على المنطقة اسم "كاليفورنيا"، مستلهماً الرواية القشتالية.
بعد ثلاثة قرون، تحولت المنطقة إلى ولاية أمريكية في خضم اندفاعة حمى الذهب.
وهكذا، دخلت
"كاليفورنيا" إلى الأسطورة القومية الأمريكية محمّلة برواسب استعمارية ودينية
وأبوية، لم ينتبه لها آنذاك كثيرون. لكن اللوحة الجدارية التي رسمها ريفيرا في الثلاثينات،
وإن بدت احتفاءً بروح الولاية، كانت تكرس نفس البنية الرمزية: المرأة التي تُلهم الرجال،
لكن لا تشاركهم القيادة. فقد اختار وجه بطلة الأولمبياد هيلين ويلز لتجسيد الملكة،
وأحالها إلى صورة جمالية بيضاء، تُحاط برجال يقطعون الأشجار وينقبون عن الذهب، بينما
هي تكتفي بالعطاء الصامت.
وهكذا تحوّلت السيدة
الحرة من قرصانة مغربية ذات سيادة، إلى رمز روائي خاضع، ثم إلى خلفية فنية تُجمل رواية
استيطانٍ نُسيت فيها شعوب بأكملها مثل الشاستا والويروك، الذين طُمست ثقافاتهم باسم
"التقدم".
لكن الأسماء، كما تقول
الكاتبة فالوري كاستيانوس كلارك، تفضح أحيانًا ما يحاول التاريخ نسيانه. فاسم
"كاليفورنيا"، ذلك الاسم الذي كان مجرد حلم أدبي في مخيلة جندي أندلسي سابق،
يحمل في طياته إرثًا من المقاومة والتحدي والأنوثة المتمردة التي ما زالت تبحث عن صوتها
في زمن الهيمنة.
إنها قصة عن محوٍ مزدوج:
محو امرأة قوية من التاريخ، ومحو ثقافات أصلية من الأرض. لكنها أيضًا دعوة لإعادة قراءة
الأساطير التي شكّلت هوية كاليفورنيا، لا كأرض وعدٍ ذهبي، بل كمكان هجين يختزن بين
تضاريسه ذكريات نساءٍ مثل السيدة الحرة… اللواتي رفضن أن يكن مجرد رمز.
0 التعليقات:
إرسال تعليق