الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أغسطس 14، 2025

جمالية قواعد البيانات: من المعمار الرقمي إلى شعر الترتيب الخفي: ترجمة عبده حقي


تبدو "قواعد البيانات" للوهلة الأولى مجرد أدوات تقنية صلبة، باردة، لا روح فيها. غير أن تفكيك هذا التصور يكشف عن أفق فلسفي وجمالي مذهل، حيث تتحول قواعد البيانات من مجرد أوعية للمعلومات إلى هياكل جمالية تعيد تشكيل علاقتنا بالمعرفة واللغة والزمن، بل وتؤثر على الفن نفسه، في أشكاله الرقمية المعاصرة.

إن مصطلح "جمالية قواعد البيانات" لا يحيل فقط إلى الشكل البصري لواجهاتها، بل إلى بنائها المفاهيمي، وطريقة تنظيمها للمعنى، والخيارات السردية التي تفرضها على المبدعين والمستخدمين على حد سواء.

يرتبط هذا المفهوم بتحولات أعمق في الثقافة الرقمية المعاصرة، حيث باتت قواعد البيانات بديلاً عن السرد، بحسب المنظّر الرقمي الروسي ليف مانوفيتش (Lev Manovich) في كتابه المرجعي The Language of New Media. " لغة الميديا الجديدة " يرى أن السرد، بوصفه شكلاً تقليديًا لترتيب المعلومات زمنياً، أصبح يتراجع لصالح قاعدة البيانات، بوصفها شكلاً مفتوحًا، غير خطي، يسمح بإعادة توليد المعنى وفق استدعاءات متعددة. فبدلاً من قصة تبدأ من نقطة وتنتهي بأخرى، بات لدينا مجموعات بيانات تُمكن المستخدم من اختيار مساره بنفسه، وكأننا ننتقل من "الرواية" إلى "القائمة"، ومن "الكاتب" إلى "المستخدم المنتج".

في هذا السياق، تُصبح قواعد البيانات بنية جمالية قائمة على التقطيع، والتركيب، والتصفية، وإعادة التوليف. إن الجمالية هنا ليست في الصور أو الأصوات التي تُعرض على الشاشة فقط، بل في منطق التنظيم ذاته: كيف تُختار البيانات، كيف تُرتب، ما الذي يُدرج وما الذي يُستبعد، كيف يتم الربط بين جميع الحقول. هذه العمليات هي التي تُشكل "الجميل" الجديد في الفن الرقمي والمعلوماتي، وهي التي تُعيد طرح سؤال: من يصنع الجمال اليوم؟ أهو الفنان أم المهندس أم الخوارزمية؟

تتجلى جمالية قواعد البيانات بشكل خاص في الفن الرقمي المعاصر، وخاصة في مشاريع الأدب الرقمي التفاعلي والفن الشبكي والخرائط البيانية التفاعلية. ففي الأعمال الأدبية التفاعلية، لا يتلقى القارئ نصاً متسلسلاً، بل يستكشف نصًا موزعًا في شكل قاعدة بيانات نصية، حيث تؤدي كل نقرة إلى مسار جديد، وكل قرار إلى سردية مختلفة. هنا تتحول قاعدة البيانات إلى أداة شعرية، تبني النص من احتمالاته، وتخلق الجمال من منطق الاختيار، لا من منطق التتابع.

وفي حقل الفن التشكيلي الرقمي، نجد تجارب مدهشة مثل أعمال الفنانين الذين يستخدمون قواعد بيانات ضخمة لرسم خرائط للمشاعر، أو الألوان، أو حتى الوجوه. يُذكر هنا مشروع "Faces of Facebook" الذي عرض صور ملايين المستخدمين ضمن قاعدة بيانات مرئية واحدة، أو مشروع "We Feel Fine" الذي ربط عبارات المشاعر الواردة في المدونات بتصميم بصري يتغيّر بحسب الكلمة والحالة والانفعال. في مثل هذه الأعمال، لا تكون قاعدة البيانات مجرد وسيلة، بل موضوعًا جماليًا في حد ذاته، لأنها تخلق شكلاً جديدًا للحساسية، يجمع بين المعنى والإحصاء، بين الفردي والشمولي.

ولا يمكن إغفال الجانب الفلسفي لهذا التحول. ففي حين كانت الفنون الكلاسيكية تحتفي بالتفرد والتماثل واللمسة الإنسانية، فإن جمالية قواعد البيانات تحتفي بالتكرار، والتراكب، والإحصاء، والبرمجة. إنها جمالية ما بعد إنسانية، تفترض أن الجمال يمكن أن ينشأ من داخل الخوارزمية، وأن العين المعاصرة باتت تتأمل في الجداول والجرافيكات كما كانت تتأمل في اللوحات الزيتية. يقول بول فيريليو (Paul Virilio) إننا لم نعد نرى العالم بل نرى "البيانات عن العالم"، وهذا يعكس مدى تغلغل قاعدة البيانات في رؤيتنا المعاصرة.

أما على مستوى الاستخدام اليومي، فإن واجهات التطبيقات، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى نظم تحديد المواقع، كلها مبنية على قواعد بيانات تُنظم التفاعل، وتُنتج الحضور، وتُعيد تشكيل إدراكنا للعالم. فما يراه المستخدم من توصيات في نتفليكس أو إعلانات فيسبوك، هو في الواقع "تجربة جمالية" مولّدة من منطق قاعدة البيانات، تم اختزالها إلى صور وأزرار وألوان.

إن إدراك جمالية قواعد البيانات يتطلب منا التخلص من مركزية "الفرد الفنان" والانتقال إلى فهم "الجماعي المنظّم"، أي إلى رؤية الفن بوصفه توليفة بين الإنسان والآلة، بين اللغة والخوارزمية. وهي جمالية تنتمي لعصر المعلومات، لكنها لا تنفصل عن التاريخ الطويل للفن، بل تعيد تأويله في ضوء المعطيات الجديدة.

في نهاية المطاف، قد لا تكون جمالية قواعد البيانات واضحة كجمال لوحة لفان غوخ، أو مقطوعة لموزارت، لكنها تكشف عن نوع جديد من الجمال، يتأسس على المعمار، والاحتمال، والإدراك الحسي الخاطف. إنها جمالية العالم المترابط، حيث يصبح الجمال نفسه جزءًا من المعادلة الحسابية، والخيال جزءًا من الخوارزمية، والبيانات... شعرًا حديثًا بلغة لا يفهمها إلا من تأمل خلف الشاشة.

0 التعليقات: