في قلب التجربة الرقمية المعاصرة، تختبئ منظومة عصبية دقيقة تُدير علاقتنا بالشاشات كما يدير مايسترو ماهر أوركسترا لا تعرف الصمت. هذه المنظومة، التي يُطلق عليها علماء الأعصاب اسم "حلقة الدوبامين"، ليست مجرد استجابة بيولوجية عابرة، بل هي آلية متجذرة في الدماغ، تنسج خيوط التعلق وتعيد تشكيل أنماط السلوك على نحو يجعل الانفصال عن الأجهزة الذكية أقرب إلى الانفصال عن عضو حيوي من الجسد.
يرى عالم الأعصاب روبرت
سابولسكي في كتابه «Behave»
أن الدوبامين ليس هرمون
المتعة بقدر ما هو "هرمون الترقب"، إذ لا يتدفق في ذروة التجربة الممتعة،
بل في لحظة توقعها. هذه اللحظة، التي تتكرر بلا نهاية مع كل إشعار يضيء شاشة الهاتف
أو كل تحديث يمر في شريط الأخبار، تعمل كمكبس نفسي يضغط على فضولنا ويغذي حاجتنا للعودة
مرارًا، حتى لو لم نكن ندرك ما الذي ننتظره بالضبط.
لقد أدركت شركات التكنولوجيا
باكرًا هذه الحقيقة، فصممت منصاتها بطريقة تحاكي آلات القمار، حيث تأتي المكافآت الرقمية
(الإعجابات، التعليقات، المشاركات) بشكل متقطع وغير متوقع. وهي استراتيجية معروفة في
علم النفس السلوكي بنظام "التعزيز المتقطع" الذي تحدث عنه بورهوس سكينر في
أبحاثه، والذي يُعد من أكثر النظم قدرة على خلق الإدمان السلوكي. هنا تتحول الشاشة
إلى صالة ألعاب افتراضية، والمستخدم إلى لاعب دائم الدوران في عجلة الاحتمالات.
ولأن الإنسان كائن
اجتماعي في جوهره، فإن حلقة الدوبامين لا تشتغل في الفراغ، بل تتشابك مع حاجتنا العميقة
إلى القبول والانتماء. وفي زمن المنصات، صار هذا الانتماء يُقاس بالبيكسل وعدّاد التفاعل.
وقد أظهرت دراسة نشرتها «Journal
of Social and Clinical Psychology» أن تقليل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلى ثلاثين
دقيقة يوميًا يمكن أن يخفف من مستويات القلق والاكتئاب بشكل ملحوظ، مما يعكس الثمن
النفسي الذي ندفعه نتيجة الانغماس المستمر في هذه الحلقة العصبية.
لكن الظاهرة لا يمكن
اختزالها في بعدها العصبي والنفسي فقط، فهي أيضًا مسألة سياسية واقتصادية. فالإدمان
على الشاشات يولد تدفقات هائلة من البيانات التي تُباع وتُحلل، في اقتصاد وصفت شوشانا
زوبوف في كتابها «عصر رأسمالية المراقبة» بأنه "اقتصاد السلوك المستقبلي"،
حيث يتحول انتباهنا إلى سلعة، وتُستغل حلقات الدوبامين لتوجيه قراراتنا الاستهلاكية
والسياسية. هنا، يصبح الإدمان أداة هيمنة ناعمة، لا تقل خطورة عن أي شكل من أشكال السيطرة
المباشرة.
من زاوية فلسفية، يمكن
القول إن حلقة الدوبامين هي تجسيد عصبي لما وصفه الفيلسوف الفرنسي غي ديبور في كتابه
«مجتمع الفرجة»؛ إذ يعيش الفرد في حالة دائمة من الانجذاب إلى صور وأحداث لا يملك السيطرة
على وتيرتها أو عمقها، لكنها تشكل إدراكه للعالم ولذاته. وفي هذا السياق، تصبح لحظة
التوقف عن التمرير على الشاشة أشبه بقطع الخيط عن دمية ماريونيت، حيث ينهار الإيقاع
فجأة ويواجه الفرد فراغًا يصعب ملؤه.
ولعل الخطر الأكبر
في هذه الحلقة هو قدرتها على إعادة برمجة الزمن الشخصي. لم يعد الوقت يُقاس بالساعات
أو الأيام، بل بسلسلة من "التحققات" المتكررة للهاتف، كما لو أن حياتنا تحولت
إلى سلسلة لقطات قصيرة، تنفصل الواحدة عن الأخرى بإشعارات لا تنتهي. وكما يذكر عالم
النفس آدم ألتر في كتابه «Irresistible»، فإن هذه الأشكال من الإدمان السلوكي تمحو
الحدود بين العمل والترفيه، بين العام والخاص، حتى يصبح الخروج من الحلقة أقرب إلى
الخروج من عالم كامل.
إن كسر حلقة الدوبامين
ليس أمرًا بسيطًا، فهو يتطلب وعيًا مزدوجًا: وعيًا بالآليات العصبية التي تتحكم في
سلوكنا، ووعيًا بالقوى الاقتصادية والسياسية التي تستثمر في استمرار هذا السلوك. إنه
مشروع للتحرر من هندسة انتباهنا، يشبه إلى حد كبير استعادة السيادة على أرض محتلة،
حيث تتطلب المعركة استراتيجيات طويلة النفس، تبدأ من الانضباط الشخصي ولا تنتهي عند
المطالبة بسياسات تنظيمية تحمي المستهلك من الإفراط الاستغلالي.
في النهاية، ليست المسألة
أن نقطع الصلة بالشاشات تمامًا، بل أن نستعيد قدرتنا على اختيار لحظة الاتصال والانفصال.
فكما أن الدوبامين هو رسول الترقب، يمكن أن يكون أيضًا رسول الإنجاز حين يُعاد توجيهه
نحو أهداف ذات معنى. عندها فقط يمكننا أن نحول الحلقة من قيد يطوق وعينا، إلى أداة
نستخدمها بوعي، فنكتب نحن إيقاع حياتنا بدل أن تكتبه لنا إشعارات لا تعرف الرحمة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق