أصبح سؤال الجمال في الوقت الراهن أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. لم يعد الأمر يتعلق بمجرّد ذوق شخصي أو إبداع فردي، بل بجدل واسع حول معنى الخلق نفسه: هل الجمال اليوم هو ومضة إنسانية تولد من قلبٍ ينغمس في الشغف، أم هو نتاج منظومة ذكية تتغذى على مليارات الأمثلة، أم هو ثمرة لقاء نادر بين وعي البشر وحسابات الآلة؟ إننا أمام لحظة مفصلية، حيث يتحول تاريخ الفن والفكر إلى مرآة تُظهر وجوهًا جديدة لصانعي الجمال، وجوهًا تعيد صياغة علاقتنا بالخيال والحقيقة، وبالماضي والمستقبل في آن واحد.
ها أنا أضع سؤالي،
الذي صار أشبه بمرآة كبرى، أمام تاريخ طويل من الحيرة البشرية: من يصنع الجمال اليوم
باعتباره عقدة فكرية تمتد من جدران الكهوف إلى شاشات الذكاء الاصطناعي، ومن الفلسفة
الأفلاطونية إلى نظريات المحاكاة عند بودريار.
منذ فجر الوعي، كان
الإنسان يترك بصماته على الحجر والطين، يرسم حيواناته وطقوسه على جدران الكهوف، لا
ليزينها فحسب، بل ليحمي ذاكرته من النسيان. في تلك اللحظة البدائية، وُلد الجمال كصرخة
ضد الفناء، وكجسر بين الداخل والخارج. ثم جاءت الحضارات الكبرى، من اليونان إلى الهند
والصين، لتربط الجمال بالانسجام والنسبة المثالية، كما تخيله أفلاطون في عالم المُثُل،
حيث الجمال المطلق فكرة أزلية لا تطالها اليد البشرية إلا عبر انعكاسات ناقصة.
لكن أرسطو قرّب الجمال
إلى التجربة الحسية، ورأى فيه فعلًا للتطهير، يعيد للنفس توازنها. عصر النهضة بدوره
جعل الجمال انعكاسًا لكرامة الإنسان، وقدرته على أن يكون مركز الكون، بينما في الحداثة
تحرر من قيود الكنيسة والملوك، لينتقل إلى الشارع، إلى التجريب، إلى كسر القواعد. وفي
ما بعد الحداثة، مع بودريار، تفتت الأصل، وصارت الصورة أهم من المرجع، والجمال محاكاة
لا تشير إلى واقع محدد، بل إلى صور أخرى في حلقة لا نهائية.
اليوم، يدخل هذا التاريخ
الطويل في مفترق جديد: الفنان لم يعد وحده على المسرح، إلى جانبه يقف المهندس، وإلى
جانبهما خوارزمية قادرة على إنتاج ملايين الصور والألحان والنصوص في ثوانٍ. الآلة تمتلك
"مخيلة" من نوع آخر، مخيلة مبنية على التجميع والتحويل والاحتمال، وليست
على التجربة العاطفية أو الخوف من الفناء. وإذا كان الإنسان، كما يرى نيتشه، يبدع من
جرحه ورغبته في خلق قيم جديدة، فإن الآلة تبتكر من وفرة بياناتها الباردة.
هنا تتقاطع الفلسفة
مع أسئلة عصرنا:
–
أفلاطون سيجد في الخوارزمية
استمرارًا لفكرة المحاكاة البعيدة عن الجمال المطلق.
–
أرسطو سيتساءل إن كانت
هذه الآلة قادرة على إثارة الكاتارسيس من دون أن تعيش الانفعال ذاته.
–
كانط سيفحص إن كان
الحكم الجمالي على نتاج الخوارزمية يمكن أن يكون "غاية بلا غاية" حقًا، أم
هو مجرد استجابة لأنماط مألوفة.
–
هيغل سيتشكك في قدرة
الآلة على التعبير عن "روح العصر" إذا لم تمتلك وعيًا تاريخيًا.
–
بودريار سيرى في الفن
الخوارزمي التجسيد الأقصى لعالم المحاكاة، حيث تختفي الحقيقة وراء طبقات من الصور الذاتية
المرجع.
لكن رغم هذا التباين،
أرى أن الجمال المعاصر لا يعيش في صراع صفري بين الإنسان والآلة، بل في تداخل معقد.
الفنان يمنح العمل إحساسه الخاص، المهندس يفتح الأبواب التقنية، والخوارزمية تفتح آفاقًا
جديدة لم يكن الخيال الفردي قادرًا على بلوغها. الجمال الذي يولد من هذا التلاقي قد
يكون ابن التوتر بين نقص الإنسان ووفرة الآلة، بين جرح الذاكرة وبرود الحساب.
التاريخ يعلمنا أن
الجمال لم يكن يومًا ملكًا ليد واحدة. إنه رحّال، ينتقل من كهف الصياد إلى قصر النهضة،
من قاعة الأوبرا إلى شاشة الهاتف. في كل عصر، تتغير أدواته، لكن حاجته إلى عين تراه
وقلب يصدقه تبقى ثابتة.
إنني أرى الجمال كطائر
أسطوري، يحطّ حيث يجد من يفهم لغته. مرّ على سقراط وهو يبحث عن الحقيقة، وجلس على كتف
مايكل أنجلو وهو يرفع سقف السيستين، وها هو اليوم يرفرف بين أسطر الشيفرات البرمجية،
يختبر إن كان في هذه الخوارزميات شيء يشبه الحلم. لا وطن له إلا اللحظة التي يلمس فيها
روحًا بشرية فتضطرب، أو يفتح فيها نافذة على ما لم يُرَ من قبل. قد يأتيك من يد رسام،
أو عقل مهندس، أو ذاكرة آلة، لكنه لا يحيا إلا إذا وجد إنسانًا يمنحه المعنى، ويعترف
له: "لقد مسستني… وهذا يكفي لأشعر أنني ما زلت حيًا."
0 التعليقات:
إرسال تعليق