يُعتبر اللقاء الفكري بين هومي ك. بهابها وغاياتري تشاكرافورتي سبيفاك أحد أهم الحوارات التي أعادت صياغة مفهوم ما بعد الكولونيالية في أواخر القرن العشرين. كلاهما من المفكرين الهنود الذين شقّوا طريقهم في الجامعات الغربية ليعيدوا مساءلة خطاب التمثيل، والهوية، والسلطة، من داخل اللغة ذاتها التي كانت أداة الاستعمار. بين بهابها، المنظّر لمفهوم الهجنة (hybridity) باعتباره فضاءً للعبور والمقاومة، وسبيفاك، صاحبة السؤال الجذري هل يستطيع التابع أن يتكلم؟، نجد حواراً يراوح بين النقد الفلسفي والالتزام السياسي، بين تفكيك الذات ما بعد الاستعمارية وسؤال التمثيل الثقافي في عالم معولم. هذه الحوارات التي امتدت بين 1998 و2003 تظل شاهداً على لحظة فكرية نادرة، حيث يتحول النقاش الأكاديمي إلى مواجهة مفتوحة بين الخطاب الإمبريالي وصوته المقموع.
في خضم النقاشات التي
أعقبت انهيار المشروع الاستعماري التقليدي، برزت نظريات ما بعد الكولونيالية كأحد أبرز
أشكال التفكير في علاقة الذات بالآخر، والغرب بالشرق، والهيمنة بالتمثيل. ضمن هذا السياق،
يأتي الحوار بين هومي بهابها وغاياتري سبيفاك باعتباره مواجهة فكرية بين مفهومين تأسيسيين:
الهجنة والتبعية. كلا المفهومين يعيدان ترتيب المشهد النقدي الذي ساد منذ إدوارد سعيد،
لكنهما يذهبان أبعد في مساءلة البنى العميقة للخطاب الكولونيالي ذاته.
أولاً: الهجنة كاستراتيجية
مقاومة
يرى بهابها أن الكولونيالية
لم تكن نظاماً من السيطرة الأحادية، بل فضاءً للتفاوض والتداخل الثقافي. فـ"الهجنة"
عنده ليست مجرد اختلاط بين ثقافتين، بل موقع "بين بين" حيث تتولد المعاني
الجديدة وتُزعزع الحدود بين السيد والمستعمَر. في كتابه The Location of Culture، يوضح أن كل سلطة استعمارية
تنتج في طياتها مساحة من الانزلاق، حيث تتحول لغة المستعمِر إلى أداة مقاومة عبر إعادة
استخدامها بطريقة ساخرة أو مغايرة.
خلال حواراته مع سبيفاك،
يؤكد بهابها أن هذا "الفضاء الثالث" (Third Space) هو المجال الذي يمكن للهوية ما بعد الكولونيالية
أن تتشكل فيه، لا بوصفها عودة إلى أصل نقي، بل باعتبارها نتاجاً للعبور والاختلاف.
هنا يتقاطع فكره مع الفلسفة الدريديّة حول الاختلاف (différance)، ومع أطروحات لاكان عن اللغة والرغبة، إذ يرى
أن المعنى لا يثبت أبداً في مركز واحد، بل يتحرك في فضاء التعدد.
ثانياً: التابع والصمت
السياسي
أما غاياتري سبيفاك،
فقد جاءت لتزعزع الرؤية المثالية لهذا التفاوض. في مقالها الشهير Can the Subaltern
Speak? (1988)،
طرحت سؤالاً ظل يهزّ النظرية الغربية حتى اليوم: من الذي يملك سلطة الكلام؟ وإذا كان
التابع—المرأة الريفية، الفقير، المهمش في الجنوب العالمي—لا يُسمع صوته إلا عبر وساطة
النخبة الأكاديمية أو السياسية، فهل يعني ذلك أنه "صامت" أم "مُسكت"
عمداً؟
في حوارها مع بهابها،
تذكّره بأن فكرة "الفضاء الثالث" قد تبدو، من موقع الامتياز الأكاديمي، مفهوماً
تحررياً، لكنها من منظور الطبقات المسحوقة قد تُخفي استمرارية الهيمنة، إذ إن اللغة
نفسها—لغة النظرية، الجامعة، والترجمة—هي امتداد للهيمنة الغربية.
سبيفاك لا تنفي إمكان
المقاومة، لكنها ترى أن أي خطاب تحرري يجب أن يمر عبر نقد جذري لموقع المتحدث ذاته،
حتى لا يعيد إنتاج ما يحاول تفكيكه. ولهذا كانت تقول: "أن تتكلم نيابة عن التابع
هو أن تصادر صمته من جديد".
ثالثاً: التمثيل بين
الخطاب والسياسة
يجد الحوار بين المفكرين
جذره الأعمق في جدلية التمثيل (representation)،
التي كانت محورية منذ إدوارد سعيد في الاستشراق. بهابها يميل إلى تفكيك التمثيل من
الداخل عبر تحليل كيف أن خطاب السلطة يفشل دوماً في تحقيق تماسكه. أما سبيفاك فترى
أن هذا الفشل لا يكفي لإنتاج صوت بديل، لأن البنية الاقتصادية والسياسية التي تهمّش
التابع أقوى من مجرد لعبة لغوية.
في إحدى الندوات المشتركة
عام 2001، سُئلت سبيفاك عن معنى "التحرر" في زمن العولمة، فأجابت بأن التحرر
لا يعني فقط تمثيل الذات في النظام العالمي، بل إعادة اختراع الذات عبر ممارسة نقدية
واعية. وردّ بهابها بأن الهجنة ليست استسلاماً للهيمنة الثقافية، بل إعادة تركيب للهوية
بشكل يفتحها على الآخر دون ذوبان.
هذا التوتر بينهما
يكشف جوهر ما بعد الكولونيالية: أنها ليست نظرية عن الماضي الاستعماري فحسب، بل مشروع
دائم لإعادة التفاوض على معنى الهوية والسيادة في عالم تتغير فيه موازين القوة باستمرار.
رابعاً: أثر الحوار
في الفكر العالمي
تجاوز أثر هذه الحوارات
حدود الجامعات. فقد أصبحت أفكار بهابها وسبيفاك أدوات لفهم قضايا الهجرة، والنسوية
العابرة للحدود، والأدب العالمي، والتمثيل الثقافي في السينما والفن.
في الأدب مثلاً، نجد
روايات مثل
Midnight’s Children لسلمان
رشدي تجسد مفهوم الهجنة سردياً، فيما تستلهم كاتبات مثل أرونداتي روي ونجوجي واثيونغو
نقد سبيفاك لخطاب التنمية. كما أن الفكر ما بعد الكولونيالي بات مرجعاً للحركات الطلابية
في الجنوب العالمي التي تسعى إلى "إزالة الاستعمار عن المعرفة"
(Decolonizing Knowledge).
خامساً: مغزى الحوار
اليوم
بعد مرور عقدين على
هذه الحوارات، يظل سؤال التابع والهجنة أكثر إلحاحاً في زمن الذكاء الاصطناعي والعولمة
الرقمية. من يملك تمثيل "الآخر" في فضاء البيانات؟ هل تتحول الخوارزميات
إلى شكل جديد من الإمبريالية المعرفية؟ ربما لو اجتمع بهابها وسبيفاك اليوم، لقال الأول
إن "الفضاء الثالث" صار افتراضياً، وقالت الثانية إن "التابع الرقمي"
لا يزال عاجزاً عن الكلام داخل لغات البرمجة التي صممها المركز.
في النهاية، لا يقدّم
الحوار بينهما أجوبة نهائية، بل يعلّمنا أن ما بعد الكولونيالية ليست مرحلة "بعدية"
بل حالة نقدية دائمة، تُذكّرنا بأن الحرية ليست في العودة إلى الأصل، بل في القدرة
على مساءلته باستمرار.







0 التعليقات:
إرسال تعليق