منذ بدايات القرن العشرين، ظل السؤال الفلسفي حول طبيعة المعرفة العلمية يؤرق العقول: هل تصف النظريات العلمية واقعًا موضوعيًا مستقلًا عن وعينا؟ أم أنها مجرد أدوات نافعة للتنبؤ والسيطرة دون أن تكشف حقيقة ما هو كامن وراء الظواهر؟
هذا هو جوهر الجدل بين الواقعية العلمية واللاواقعية العلمية، وهما تياران يتقاطعان عند حدود العلم والفلسفة، ويختلفان حول معنى "الحقيقة" ودور "النظرية" في تمثيل العالم.
الواقعية العلمية:
الإيمان بوجود العالم المستقل والحقيقة النظرية
يذهب أنصار الواقعية
العلمية إلى أن العالم الخارجي موجود وجودًا مستقلاً عن الإدراك البشري، وأن النظريات
العلمية تهدف إلى وصف هذا العالم كما هو.
فحين تتحدث الفيزياء
عن الإلكترونات أو الثقوب السوداء، فهي – في نظر الواقعيين – لا تبتكر كيانات خيالية،
بل تكشف عن بنى واقعية تشكل نسيج الكون.
يُعتبر كارل بوبر (Karl Popper) من أبرز المدافعين عن النزعة الواقعية، لكنه
قدّمها في إطار العقلانية النقدية. فبوبر يرى أن النظريات العلمية لا يمكن إثباتها
نهائيًا، لكنها قابلة للتكذيب (falsifiability).
غير أن بوبر، رغم نقده
للدوغمائية، ظل يؤمن بأن العلم يقترب تدريجيًا من الحقيقة الموضوعية عبر عملية النقد
والتصحيح المستمر. فالنظريات ليست انعكاسًا تامًا للواقع، لكنها محاولات تقريبية نحو
فهمه.
أما إمري لاكاتوش (Imre Lakatos) فقد طوّر موقفًا أكثر دينامية من بوبر في
ما سمّاه "منهج برامج البحث العلمية". فهو يرى أن العلم لا يتقدم من خلال
دحض نظريات منفصلة، بل عبر برامج بحثية متنافسة تمتلك نواة صلبة تحميها من التناقضات
المؤقتة.
وهذا يعني أن الواقعية
عند لاكاتوش ليست يقينًا بالواقع بقدر ما هي إيمان عقلاني بتقدم المعرفة العلمية داخل
إطار تاريخي ومنهجي متطور.
اللاواقعية العلمية:
النظرية كأداة لا كمرآة
في المقابل، يقف اللاواقعيون
أو الأداتيون
(Instrumentalists) موقفًا
أكثر تحفظًا من ادعاء الواقعيين. فهم يرون أن مهمة العلم ليست الكشف عن الواقع في ذاته،
بل بناء أدوات فكرية تتيح لنا التنبؤ الناجح بالظواهر.
العلم – بحسبهم – لا
يقول لنا "ما هو العالم"، بل "كيف يعمل العالم أمامنا".
أحد أبرز ممثلي هذا
التيار هو باس فان فراسن (Bas van Fraassen) صاحب "الواقعية البنيوية الظاهرية" أو ما سماه اللاهتمام بالواقع
غير المرصود
(Constructive Empiricism).
ففي كتابه The Scientific
Image (1980)،
يرى فان فراسن أن الهدف من النظرية العلمية ليس قول الحقيقة الكاملة، بل أن تكون صادقة
تجريبيًا، أي متوافقة مع الظواهر القابلة للرصد.
الكيانات النظرية مثل
"الإلكترون" أو "الكمّ" لا يُلزمنا الإيمان بوجودها الواقعي، بل
يكفي أن تؤدي وظيفتها التفسيرية.
وهكذا تتحول النظرية
إلى أداة للنجاح التجريبي أكثر من كونها مرآة للواقع.
كوين واهتزاز الحدود
بين النظرية والواقع
أما ويلارد فان أورمان
كوين
(W.V.O. Quine)،
فقد هزّ الأسس التقليدية للتمييز بين النظرية والتجربة.
في مقاله الشهير Two Dogmas of
Empiricism،
نقد الثنائية بين القضايا التحليلية والتركيبية، مؤكدًا أن النظرية بأكملها تواجه العالم
كتلة واحدة، لا جملًا منعزلة يمكن اختبارها.
وهذا يقود إلى تصور
شبكي للمعرفة، حيث تتفاعل الملاحظات مع الافتراضات النظرية واللغة والمنطق نفسه.
وبالتالي، فإن مفهوم
الحقيقة العلمية عند كوين يصبح نسبياً ومترابطًا، لا يقينًا مطلقًا ولا مجرد أداة تجريبية.
إنه موقف "بين
الواقعية واللاواقعية"، إذ يقرّ بوجود العالم لكنه يشكّ في قدرتنا على فصله عن
أدواتنا اللغوية والمعرفية.
مقارنة تحليلية: الحقيقة
بين التمثيل والنفعية
من منظور تحليلي، يمكن
القول إن الخلاف بين الواقعيين واللاواقعيين ليس حول نجاح العلم، بل حول تفسير هذا
النجاح.
فالواقعي يرى في نجاح
التنبؤ العلمي دليلاً على اقتراب النظرية من الحقيقة، بينما اللاواقعي يراه نتيجة لبراعة
الأدوات الرياضية والمنهجية التي نصنعها نحن.
كما أن الواقعية تفترض
نوعًا من الالتزام الأنطولوجي (بوجود الكيانات النظرية)، في حين أن اللاواقعية ترفض
هذا الالتزام لصالح التواضع المعرفي.
أما بوبر ولاكاتوش
فيمثلان جناحًا عقلانيًا واقعيًا، يؤمن بتقدم العلم رغم لايقينيته، بينما فان فراسن
وكوين يقدمان نقدًا إبستمولوجيًا يجعل الحقيقة العلمية مشروطة باللغة، والمنهج، والقدرة
على الرصد.
خاتمة
يبقى الصراع بين الواقعية
واللاواقعية العلمية من أكثر الحوارات ثراءً في فلسفة العلم، لأنه يعيد طرح السؤال
الأبدي:
هل نحن نكتشف العالم
أم نبتكره؟
ربما الجواب الأقرب
إلى الإنصاف هو ما قاله هايزنبرغ:
"ما نلاحظه ليس الطبيعة نفسها، بل الطبيعة
كما تُعرض أمامنا في ظل أسئلتنا وأساليبنا."
فالعلم، في النهاية،
هو مرآة مزدوجة تعكس في آنٍ واحد العالم ووعينا به، حيث لا يمكن فصل الواقع عن اللغة،
ولا الحقيقة عن التجربة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق