الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أكتوبر 09، 2025

قراءة في كتاب جاي روزن حول «الصحافة التشاركية» ترجمة عبده حقي


تُعدُّ فكرة الصحافة التشاركية من أبرز المفاهيم التي برزت مع تطوّر وسائل الاتصال والإنترنت، إذ تحوّل الإعلام من نموذج أحادي الاتّجاه (الصحفي → الجمهور) إلى نمط أكثر تفاعليّة، حيث يشارك الجمهور في إنتاج المحتوى ومراقبته وتعديله أحيانًا.

يُعدّ جاي روزن (Jay Rosen)، أستاذ الصحافة في جامعة نيويورك، من أبرز المفكرين الذين تناولوا هذه الظاهرة بصيغة نظرية وتحليلية، واجتهد في إعادة صياغة العلاقة بين الصحافة والجمهور في العصر الرقمي.

في هذه المراجعة سأعرض أهم محاور رؤيته حول الصحافة التشاركية، وأناقش نقاط القوة ونقاط الضعف، وأقدّم رأيًا نقديًّا حول جدوى تطبيق هذا النموذج في السياق الإعلامي العربي.

العرض: رؤية روزن في الصحافة التشاركية

المفهوم الأساسي

يرى روزن أن الفارق الجوهري في الصحافة التشاركية هو أن الجمهور لم يعد مستقبلاً سلبيًا فحسب، بل صار “المشارِك” الفاعل الذي يمتلك أدوات إنتاج المحتوى – مثل الكاميرا في الهاتف، أو التدوين، أو التعليق – ليصبح جزءًا من عمليّة التغطية الصحفية.

مركز القرار للدراسات الإعلامية

وبعبارة تُلخّص مقولته الشهيرة في هذا السياق، يصفهم قائلاً إنهم “الناس الذين كانوا يُعرفون سابقًا باسم الجمهور

بالنسبة إليه، الصحافة التشاركية ليست فقط أن يرسل الجمهور قصصًا أو صورًا، بل أن تكون هناك آليات مؤسّسية للتفاعل بين المهنيين والجمهور، بحيث يصبح للعمل الجماعي قيمة مضافة في الكشف والتحقيق والنشر.

التحوّل من الصحافة التقليدية إلى التشاركية

في كتابه What Are Journalists For? (وليس تحديدًا تحت عنوان "الصحافة التشاركية"، لكن يتضمّن رؤاه الجوهرية) يتحدّث روزن عن "getting the connections right" – أي “إصلاح الروابط الصحيحة” بين المؤسسات الصحفية والجمهور، بين الحقائق والقيم، بين العمل الصحفي والديمقراطية.

يقدم روزن نقدًا للمفاهيم التقليدية في الصحافة التي تحاول الفصل الكامل بين الصحفي والمواطن، وبين الوقائع والقيم، وبين النشر والتحليل، ويقول إن الصحافة التشاركية قد تساعد في إعادة ترابط هذه الأجزاء.

كما أن روزن لا يزعم أن الصحافة التشاركية تحل جميع المشكلات، بل هي نموذج يعيد التفكير في دور الصحفي والجمهور في عصر المعلومات الزائد.

المزايا التي يراها روزن

تمكين الجمهور

الصحافة التشاركية تمنح الأفراد القدرة على المساهمة والإبلاغ عما يهمّهم محليًا أو مجتمعيًا، وليس الاقتصار على ما تراه المؤسسات الكبرى.

ضبط رقابي إضافي

حين يشارك الجمهور في التحقق أو النقد أو التصحيح، تزدد وسائل الإعلام المهنية بمصداقيّة أو على الأقل تُعرض أمام رقابة المجتمع المحلي.

توسيع نطاق المصادر والمعلومة

الجمهور قد يملك وصولًا إلى معلومات أو وقائع في أماكن تفتقر إليها المؤسسات الإعلامية، ما يثري المحتوى ويزيد تنوّعه.

تعزيز التواصل والتفاعل

تتحول العلاقة بين الصحفي والقارئ إلى علاقة حوارية، ما يخلق ديناميكية تفاعلية أكثر من البث أحادي الاتجاه.

الابتكار الإعلامي

يفتح هذا النموذج المجال لتجارب إعلامية هجينة، تجمع بين المهني وغير المهني، وبين المصدر والتعليق والإنتاج المفتوح.

التحدّيات التي يواجهها النموذج في رؤية روزن

قضايا الجودة والمصداقية

بما أن الجمهور غير محترف غالبًا، قد تكثر الأخطاء أو المعلومات غير الدقيقة أو التحيزات التي لا يُعنى بها بالدرجة نفسها كمهنة الصحافة.

التوازن بين التحرير والمشاركة

كيف تتحكم المؤسسات في مضمون ما يُنشر دون أن تسقط في الرقابة المهيمنة التي تلغي الفاعلية التشاركية؟ هذا التوازن صعب في الممارسة.

الموارد والدعم المؤسسي

الصحافة التشاركية تحتاج بنى تحتية تقنية، وأطر تنظيمية، وإدارة تفاعل، وقد لا تجد المؤسسات الإعلامية التقليدية الرغبة أو القدرة على احتضان هذا النموذج بالكامل.

التمثيل وعدم المساواة

ليس كل فئة من الجمهور تتمتع بالأدوات أو الثقة للمشاركة؛ هناك من هو مشارك بكثافة، ومن يبقى هامشيًا. هذا قد يُكرس الفوارق الإعلامية.

الاستغلال والتمييع

قد تُوظّف المشاركة من جهة معينة للترويج لأجندات سياسية أو تجارية، بدلاً من أن تكون مشاركة حقيقية وموضوعية.

تقييم نقدي: إلى أي مدى تصلح هذه الرؤية في السياق العربي؟

نقاط القوة إذا طُبّقت بعناية

في بلدان مثل المغرب أو غيرها من الدول العربية، حيث كثيرا ما تُعاني وسائل الإعلام من ضعف التفاعل أو أزمة الثقة، يمكن أن تكون الصحافة التشاركية جسرًا لإعادة بناء الثقة مع الجمهور وإشراكه في قضايا محلية فاعلة.

في السياقات المحلية أو القرى أو المدن الصغيرة، حيث تغيب وسائل الإعلام الكبرى أو لا تغطي التفاصيل الدقيقة، قد يقدم المواطنون الميدانيون مساحات ضوء لا تستطيع المؤسسات توفيرها بسهولة.

إذا نظّم الموضوع بشكل جيد، بإشراف صحفي مهني، يمكن أن تكتسب المشاركة إرشادًا وتوجيهًا يحسّن المحتوى ويقلل الأخطاء.

المآخذ والاحتياطات

احتمال غلبة الزخم الكمي على الجودة: عندما تُفتح المشاركة بشكل واسع، قد تغمر المشاركات البسيطة أو السطحية المحتوى الجيد، ما يؤدي إلى إغراق المنصة بالتعليقات غير المجدية.

في العالم العربي كثير من الإعلام يخضع لرقابة سياسية أو ضغوط مؤسسية، فمَن يضمن أن المشاركة لن تُستخدم كأداة للترهيب أو التشويه؟

 

التفاوت الرقمي: لا يملك كلُّ الناس إمكانية الوصول الجيدة إلى الإنترنت أو المعرفة الرقمية أو القدرة على التعبير الصحفي.

الثقافة الصحفية: في مناطق تكون الثقافة الصحفية أقل تطوّراً، قد يحتاج الجمهور إلى توجيه تدريجي لكي لا يتحول إلى مُروّج خبر زائف أو معلومة ناقصة.

التأطير القانوني والأخلاقي: كيف تُدار الحقوق، الخصوصية، الملكية الفكرية، التعديلات، حذف المنشورات، حماية المصادر، وتحميل المسؤولية عند الخطأ؟

رأي شخصي في الرؤية

أرى أن رؤية جاي روزن تقدّم إطارًا مهمًّا للتفكير في تطوّر الصحافة في العصر الرقمي، وهي دعوة جديرة للاهتمام للانتقال من الانغلاق إلى الانفتاح، من التلقّي إلى المشاركة. لكن الرهان الحقيقي ليس في الفكرة بحد ذاتها، بل في طريقة التطبيق، وكيفية تصميم الهياكل التنظيمية والقانونية والتقنية التي تحمي الصحافة وتُسهل المشاركة في آن واحد.

في السياق العربي، أعتقد أن الصحافة التشاركية قد تنجح في مجالات محلية ومجتمعية، خصوصًا إذا رافقتها مبادرات تدريبية للجمهور، وإشراف مهني، وضوابط شفافة. ولكن إذا لم تتوفّر الضوابط اللازمة، فقد تتراجع إلى مجرد تعليق عشوائي أو شفرة إعلانية متنكرة، دون محتوى صحفي جاد.

0 التعليقات: