في فضاء الثقافة المغربي المعاصر، تبرز اليوم عنوانان يبدو أنهما يعكسان مسارين متقابلين لكن متداخلين: من جهة، التجريب الفني–التكنولوجي، ومن جهة أخرى، العودة إلى الروافد الرمزية والهوية التاريخية. هذان الخطّان يلتقيان في الصفحة الثقافية، ويتشابكان في ما يمكن تسميته “موجة إعادة تشكيل الذات الثقافية”.
أولاً، تحت عنوان «“لابسة القفطان تجمع بين الذكاء الاصطناعي والإبداع الفني لمعتز أبو الزوز» يُكشف عن تجربة فريدة: القفطان المغربي — رمز تقليدي للهوية والأنوثة والموروث — يلتقي بتقنيات الذكاء الاصطناعي والإبداع المعاصر. ما يوحي بأن ثقافتنا لا تكتفي بالحفاظ على ما هو “أصلي” فحسب، بل تسعى لتفكيكه، إعادة تشكيله، وربما ردمه في تجربة فنية تطرح تساؤلات حول الحدّ بين الحرفة اليدوية والتكنولوجيا، بين الحضور والجسد والمشهد الرقمي. هل القفطان هنا مجرد زيّ؟ أم أصبح منصة للتجريب؟ كيف تتعامل “المجسّدة” مع التراث حين يدخل في دائرة الخوارزميات والبيانات؟
ثانياً، يظهر عنوان «تقديم رواية “زهرة الجبال الصماء” لتلميح إلى التوتر بين الزهرة والجبال الصماء» كوقفة تأملية في الاغتراب والتمسّك، في رمزية المكان والميتافيزيقيا. فالزهرة تنفتح على الجمال واللين، بينما الجبال الصماء تذكّر بالخشونة والهلاك والموت وفق ما ورد في الخبر. هذا العنوان ينقل القارئ إلى فضاء سردي حيث الهوية تنسج بين الحضور والغيبوبة، بين المقاومة والتلاشي، بين الكتابة والصدأ. الرواية تبدو كمحاولة استئناف للتاريخ والبُعد الجسدي والرمزي في مواجهة العصرنة والتهميش.
ربما تكمن الإشكالية الكبرى في أن المشهد الثقافي المغربي حالياً يعيش حالة مزدوجة: من جهة، تقنيات تُستدعى لتحديث الموروث والتعبير؛ ومن جهة أخرى، وجُود يصرّ على الاستدعاء الرمزي للهوية، التاريخ، الأرض. وكلا المسارين لا يخلو من توتر أو تضاد: فبين أن يكون التراث “قالباً” يُعاد إنتاجه، أو أن يُصبح “مادة خام” لإبداع لامتناهي، وبين أن يكون النصّ السرديّ محاولة للهروب من الذات أو مواجهة الذات، يتشكل هذا الحوار الثقافي.
في هذا الإطار، يمكن قراءة هذين العنوانين كأيقونتين لمغرب الثقافة القادمة:
-
أيقونة «لابسة القفطان» كمحاكاة رمزية لتراث يُعاد تكوينه في فضاء الفن الرقمي، حيث الأزياء والهوية والجسد والآلة يتداخلون.
-
وأيقونة «زهرة الجبال الصماء» كمحاكاة لرواية تحتاج إلى إعادة النظر في التأريخ الشخصي والجماعي، في العنفوان والموت، في المكان واللاّمكان.
لكن ماذا يعني هذا بالنسبة للكاتب أو المثقف المغربي اليوم؟ أولاً، يعني أن المجال الثقافي لم يعد محصوراً في الاستنساخ أو الحَفْظ؛ بل هو ساحة تجريب واعٍ، يحتاج إلى لغة جديدة، إلى أدوات تدمج بين المكونات التراثية والآفاق المعاصرة. ثانياً، يعني أن الهوية الثقافية تحت المجهر؛ ليس فقط كموضوع، بل كآلة إنتاج: كيف تُكتب؟ كيف تُعرض؟ كيف تُعاد صياغتها؟ وأخيراً، يعني أن الدور الصحفي/التحليلي اليوم صار لا يكتفي بنقل الخبر أو التقديم، بل يُصبح شريكاً في بناء المعنى، في الكشف عن التوترات، في رصد التحوّلات الرمزية.
في نهاية المطاف، ربما يُمكن القول إن المغرب الثقافي اليوم يقف عند مفترق: بين أن تكون الهوية حصناً صافياً أو أن تكون نصاً مفتوحاً؛ بين أن يكون التراث سِجْناً أو منصة؛ بين أن يكون الجسد مروراً أو شهادة. والكاتب، في هذا الوقت، ليس فقط مؤرخاً أو مبدعاً، بل وسيطاً بين زمنين: زمن ما قبل التقنية وزمن ما بعد̌ها، زمن الأرض والذاكرة وزمن الشبكة والذكاء الاصطناعي.
ومن هذا المنطلق، فإن العنوانين المذكورين ليسا مجرد أخبار ثقافية، بل إشارات مبكرة لرحلة أطول في الثقافة المغربية: رحلة إعادة تعريف الذات، وطرح الأسئلة الكبرى في شكلها الجديد: من نحن؟ كيف نُعبّر؟ إلى أين نذهب؟







0 التعليقات:
إرسال تعليق