الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الجمعة، نوفمبر 07، 2025

للثقافة أخبار إعداد عبده حقي

 


1) تمهيد: الذاكرة حين تتحوّل إلى برنامج عمل

ليس من قبيل المصادفة أن تتزامن خمسينيةُ المسيرة الخضراء مع طفرةٍ في الأحداث الثقافية العابرة للمدن والحدود. فالذاكرة، هنا، ليست استدعاءً فولكلوريًا لمشهدٍ تاريخي؛ إنّها برنامجُ عملٍ ثقافي يُترجم نفسه في فضاءاتٍ متعدّدة: أوبرا في ساحةٍ عمومية بالداخلة،

وأمسيةٌ بصريةٌ/موسيقية في الأولمبيا بباريس، ومعارضُ تُعيد تعريف الهويّة الإفريقية للرباط، ومهرجاناتٌ تُحوّل المدن المتوسطة إلى محاور ثقافية. إنّه نظامُ مواسم لا مجرّد فوضى تظاهرات، ونوعٌ من الحوكمة الرمزية حيث تُنسج قيمةٌ مضافة للمدن وسكانها.

2) الداخلة: إعادة مَركزَة الأطراف
حين تُقدَّم أوبرا ضخمة في ساحة الحسن الثاني بالداخلة، فنحن أمام قلبٍ للمنظور: لم تعد العاصمة وحدها تملك حقّ عرض الأعمال الكبرى. بهذا المعنى، تصبح الأوبرا إعلانَ مواطَنةٍ ثقافية: الفنُّ للناس جميعًا، يقتحم الفضاء العمومي، يكتب على هواء الصحراء نصّه، ويستعير من المكان بلاغته الطبيعية. وعلى ضفاف المشهد نفسه، تُنقّب “لقاءات التصوير” في معنى التخوم: تُصوَّر الحدود لا لتثبيتها، بل لتفكيكها وجعلها مجالًا للتفاوض الجمالي.

«الصورةُ ليست شاهدًا على الواقع فحسب، بل صانعةُ واقعٍ ممكن» – اقتباسٌ يصلح لتأطير مسارٍ فوتوغرافيٍّ يسائلُ علاقةَ العين بالمكان.

3) المسرح الوطني: الذاكرة المؤسسية للخشبة
خمسٌ وعشرون دورةً من المهرجان الوطني للمسرح ليست رقمًا بل سيرةُ صبرٍ مؤسّسي. هنا تتراكم خبراتُ الإخراج والكتابة والسينوغرافيا، ويُعاد اختبار لغة الجسد والحوار، وتُقاسُ المسافة بين المسرح المحترف وجمهوره. الأهمّ أنّ تطوان تُقدّم مثالًا على كيف تُصنع المدينة المسرحية: عبر القاعات والبنية التحتية، وعبر الخطاب التربوي الذي يُقنع المدارس والجامعات بأنّ المسرح ليس ترفًا، بل وظيفةُ مواطَنة.

4) الرباط الإفريقية: المتحف والمدينة
معرض “يَلّا إفريقيا” لا يضيف عنوانًا إلى رزنامة فيلا الفنون فحسب؛ إنّه منعطفٌ قيّماتي يُعيد وضع الرباط في خارطة إفريقيا الثقافية، ويقترحُ على الجمهور المغربي قراءةً جديدةً لرموزٍ وموادّ وأرشيفاتٍ طالما نُظر إليها من زاويةٍ مركزيةٍ أوروبية. المعنى هنا يتجاوز العرض إلى بناء الذائقة: كيف نتلقّى عملًا بصريًا إفريقيًا؟ من أيّ خزّانٍ معرفي نستحضره؟ وكيف نفتح قاعة العرض على قضايا العدالة الثقافية والبيئية والعرقية؟

5) العرائش وتمارة/تيفلت: مدنٌ متوسطة، أسئلةٌ كبيرة
يُثبت مهرجان العرائش لتلاقح الثقافات أنّ المدن المتوسطة قادرةٌ على صياغة عقودها الثقافية الخاصة، وأنّ الانفتاح الدولي لا يأتي عبر المهرجانات الكبرى وحدها. “التلاقح” بوصفه مفهومًا ليس ترفًا بل ضرورة ديمقراطية: ففي مواجهة الاستقطابات والاصطفافات، يعلّمنا الفنُّ أن الموادّ الهجينة أجمل، وأنّ المشترك الإنساني لا يولد من التجانس، بل من اختلافٍ مُدارٍ بعناية. وعلى الضفة الأخرى، يقدّم “NAFAS” درسًا في التربية على الثقافة: ورشاتٌ مفتوحة، مشاركة الأهالي، إدماجُ الشبيبة، وتذويبُ المسافات بين الفنان والمتلقي.

«كلُّ مدينةٍ يمكن أن تكون مسرحًا إذا امتلكت شجاعة السؤال» – عبارةٌ تُلخّص ما تفعله هذه المهرجانات حين تُعيد توزيع الضوء خارج المراكز التقليدية.

6) الاقتصاد الإبداعي: حين يصبح “اليقطين” علامةً ثقافية
مهرجان اليقطين في الجديدة يشي بأنّ الثقافة لا تسكن قاعات العرض وحدها؛ إنّها أيضًا سردُ الحِرَف والتقاليد والمنتجات المحلية. هنا يلتقي الطعام بالفنّ، والزراعة بالتصميم، لتولد سياحةٌ ثقافية صغيرة الحجم كبيرة الأثر. إنّ تحويل سلسلةٍ فلاحيةٍ إلى هويةٍ بصرية وطقسٍ احتفالي يفتح أمام الجماعات المحلية فرصًا اقتصاديةً ذكيّة، ويُشجّع على التفكير في التراث الغذائي كمنجمٍ للابتكار.

7) الدبلوماسية الثقافية: الأولمبيا نموذجًا
أمسيةُ الأولمبيا تكشف وجهًا آخر لـالقوة الناعمة: حين تُروى قصةٌ وطنية على خشبةٍ عالمية، فإنّنا لا نحتفل بيننا فقط؛ نحن نكتب سجلًّا دوليًّا للذاكرة. في هذه الحالة، تصبح الموسيقى والصورة والإنارة لغةً دبلوماسيةً تُحسن التعريف بالبلد، وتستثمر في رصيد التعاطف والفضول الثقافي لدى الجمهور العالمي. إنّ حكامة الصورة اليوم ليست كمالية؛ إنّها ضرورة سيادية بقدر ما هي جمالية.

8) الدرس الإقليمي: “نور الرياض” والخيال الضوئي
في الجوار العربي، تقدّم الرياض تجربةً مُلهِمة في جماليات الضوء والمدن. لا يتعلّق الأمر بالعرض التقني وحده؛ بل بكيفية تحويل المدينة إلى نصٍّ فني، وبمنح الجمهور خبرة حسّية تُعيد تعريف علاقته بالمكان. هذه الدروس قابلةٌ للمحاكاة في مدننا: مساراتٌ ضوئية في المدينة العتيقة، حواراتٌ بين الذكاء الاصطناعي والتراث، وتجاربُ واقعٍ مُعزّز تُضفي على الأزقّة والميادين طبقاتٍ من الحكاية.

9) فينيسيا: الهندسة بالتراب… تكوينٌ أخلاقي للجمال
الجناح المغربي في بينالي فينيسيا للعمارة 2025 هو اقتراحٌ جماليٌّ/أخلاقيّ في آن: التراب مادةُ بناءٍ تعلّم الاقتصاد في الموارد، وتقاوم البصمة الكربونية، وتمنح للأحياء دفئًا حسيًا ومعنويًا. إنّه درسٌ في الأصالة المُجَدِّدة: العودة إلى موادّ محليةٍ لا تعني الارتداد إلى الماضي، بل تحديث إرثٍ بنّاء عبر البحث والتقنية والتصميم.

10) من “الحدث” إلى “النسق”: كيف نُحكِمُ مواسمنا الثقافية؟
التحدّي الآن هو الانتقال من التظاهرة إلى النسق:

  • الأرشفة والبيانات المفتوحة: منصّاتٌ تُوفّر الكتالوغات والموادّ البصرية ومؤشرات الحضور والأثر.

  • التربية الثقافية: وصل المدارس والجامعات بالفضاءات المشاركة (ورشات، تذاكر شبابية، كراسات تعليمية).

  • سياحة المهرجانات: ربط التقويم الثقافي بالنقل والإيواء والمطاعم، وبناء خطط ترويج مشتركة.

  • الشراكات العابرة للقطاعات: أن يتجاور الراعي العمومي مع الخاص، والبلدية مع الجامعة، والمتحف مع شركة تكنولوجيا.

«الثقافةُ نظامٌ إيكولوجيّ: إذا قوّيتَ عنصرًا واحدًا فقط، اختلّ التوازن؛ وإذا رعيتَ الشبكةَ كلّها، أزهرت المدينة».

خاتمة
بين أوبرا الصحراء وصور الداخل، وبين خشبة تطوان وأضواء الرباط، وبين مهرجانات العرائش والجديدة والفضاءات العالمية في باريس وفينيسيا، يتبدّى مغربٌ يكتب فصولَ ذاكرته الجديدة بثقةٍ وابتكار. ليس الهدف أن “نُدخِل” الثقافة إلى جدول أعمال المدن؛ فهي موجودةٌ أصلًا. الهدف أن نُحسِنَ تنظيم مواسمها، وأن نربط بين الفنّ والتعليم والاقتصاد والتراث، وأن نجعل من كلّ تظاهرةٍ حجراً في قنطرةٍ طويلة نحو مجتمعٍ أكثر عدلًا وجمالًا ومعرفة.

عبده حقي

0 التعليقات: