مدخل في الآونة الأخيرة، نشهد تجددًا في الإصدارات العربية في مجالات الشعر والقصة والرواية، حيث تتداخل الفصحى مع العامية، وتُطرح الذّكرى الفردية والجماعية، وتُسترجع الأجناس المهملة أو المتناقضة، كاليهودية اللبنانية أو الذاكرة الفلسطينية. العناوين التي سنستعرضها كلها نشرت على موقع Middle East Online، مما يدل على اهتمام المنصة بمواكبة المنتَج الأدبي المعاصر، فضلاً عن موقعها كمنبر ثقافي عربي يتيح قراءة نقدية.
كلّ عنوان سنقف عنده بإيجاز، ثم ننتهي بتحليل موحد لأبرز المتغيّرات والدلالات التي تستشفّها هذه الإصدارات.
1. «عطر أغنيتي» – ديوان يمزج الفصحى والعامية
صدر هذا الديوان للشاعرة رانيا يوسف عن «مؤسسة نهر النيل للنشر والطباعة». middle-east-online.com
في عنوانه – «عطر أغنيتي» – يلتقي الإيحائي (العطر) مع الصوت (أغنيتي)، مما يوحي بأن النصّ الشعري يبحث عن تجسيد حسيّ للصوت الداخلي أو الخارجي، وربما علاقة الشاعرة بالغناء أو الموسيقى الداخلية.
الميزة اللافتة هنا: المزج بين الفصحى والعامية، وهو خيار يشي برغبة في كسر الحدود التقليدية للشعر العربي، وبلورة صوت شعري أكثر «حياة» وانفتاحًا على التداول اليومي.
من زاوية عملك ككاتب مهتم بالتحولات والنصوص التي تجاور اللغة العامية والفصحى، هذا الديوان يمثل حالة مثيرة: اللغة ليست فقط وسيلة، بل جسراً بين الذات والمجتمع، بين الخطاب الرسمي وخطاب الشارع.
يمكن أن يُقرأ الديوان كذلك كتجربة في «تعدد الأصوات» – ربما تغني الشاعرة بلغة العامية عندما تتجاوز الذات، وتعود إلى الفصحى حين تستدعي الذات الجمعية أو التاريخ أو الغياب.
في السياق الثقافي المغربي والعربي، مثل هذا المزج يُعدّ تأكيداً على أن اللغة الأدبية العربية لم تعد حبيسة الفصحى وحدها، بل تتجاور مع اللهجات، ما يفتح فضاءً لإبداع أكثر حرية، وأكثر تجاوراً مع الواقع الحيّ.
2. «إشراقات الفضاء القصصي: أفراح الهندال في سكين النحت» – قراءة نقديّة لـ “أفراح الهندال”
الناقد عبدالله السمطي يقدّم هذا الكتاب الصادر عن دار إيقاعات بالقاهرة، كقراءة نقدية لمجموعة القصص أفراح الهندال. middle-east-online.com
عنوان الكتاب «إشراقات الفضاء القصصي» يوحي بأنه لا يكتفي بتحليل النص بل باستشراف الفضاءات التي ينفتح فيها النص: الفضاء الاجتماعي، المكاني، النفسي، وربما الرمزي («في سكين النّحت»). كلمة «سكين النّحت» تفتح التداعيات: الكتابة كعملية نحتية، القصّة كحفر في المادة الخام للواقع أو الذاكرة.
من منظورك ككاتب مهتم بتداخل السرد والذاكرة، هذا العنوان يستحق الاهتمام لأنه يشير إلى قصّة ليست مجرد سرد للأحداث، بل تجويف داخل المادة (الواقع/الذاكرة)، والنقد يفتش عن مكان «الإشراق» داخل هذا التجويف.
كما أن الأمر يشير إلى الفضاء القصصي باعتباره ليس مجرد محتوى بل بنية، و«إشراقات» تدل على لحظات تومض، ربما بين السخف واليأس، بين الكلمات والرغبة في الكتابة.
في السياق العربي، هذا النوع من القراءة النقدية مهمّ لأن القصّة القصيرة غالباً ما تُهمّش أمام الرواية أو الشعر، لكن هنا يبدو أن المجموعة ومَن تناولها النقديّاً يمنحانها اهتماماً جدّياً. ومن زاوية الشغب اللغوي والتحولات السرديّة التي تهتم بها — فإن هذا العمل النقدي يشير إلى أن القصّة اليوم تدخل في تحولات بنيوية: المكان، اللغة، الزمن كلها مكونات «نحتية».
3. «حين انطفأت شرفات اليهود في وادي أبو جميل» – استذكار تاريخ اليهود في لبنان
كتبتها ندى عبدالصمد، وتعنى باستعادة ملامح تاريخ اليهود في بيروت – في وادي «أبو جميل». middle-east-online.com
العنوان وحده يحفل بالدلالات: «حين انطفأت شرفات اليهود» – شرفاتٌ هنا رمز للوجود المكشوف، للتمازج الثقافي، وللذاكرة التي كانت ظاهرة في مكان عام، ثم «انطفأت» أي انطفأ ضوءها، زالت رؤيتها، وربما تلاشت. والتحديد المكاني «وادي أبو جميل» يعيد إلى ذاكرة جغرافية محلية، لا مجرد سرد عامّ.
من منظورك، ككاتب مهتم بالهوية والذاكرة وقد تناولت موضوعات مثل العبيد والذاكرة الأفريقية، هذا العنوان يشكّل نموذجاً لاستذكار تنوّع الهوية في الشرق العربي – هنا اليهود اللبنانيون – كمكوّن من مكونات التاريخ الثقافي، قبل أن يُكسَر أو يشهد انتقالاً أو تغيّراً.
كما أن هذه الاستذكار ليس فقط تاريخياً بل يحمل بعداً أدبياً: اللغة المستخدمة في العنوان (انطفأت، شرفات) تعطي بعداً شعريّاً، مما يجعله ليس سيرة صرفة وإنما أيضاً تأمّل في فقدان الوجود، في الغياب، في القيمة التي كانت ثمّ لم تعد.
في السياق الثقافي، هذا العمل يعكس تحوّلاً إيجابياً في العلاقة مع «المكوّنات الأخرى» للهوية اللبنانية والعربية، أي التوجّه إلى استرجاع ما هو مُغيّب، وطرح سردية شاملة أكثر من السرديات المحلّية الضيّقة.
4. «ماتريوشكا – أرواح من قطن» – رواية عن الذاكرة التي لا تموت
الروائية عائشة بنّور تُقدّم هذه الرواية كـ «رحلة في طبقات الذاكرة، حيث تتجاور الحكايات مثل دمى متعاقبة، تخبئ كلّ واحدة سراً أكبر من الأخرى». middle-east-online.com
العنوان «ماتريوشكا» (الدمية الروسية المتداخلة) يوحي مباشرة ببنية متعدّدة الطبقات، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، «أرواح من قطن» توحي بأن الموادّ أو العناصر الهشة (القطن) تُحمل فيها الأرواح، أو الذاكرة.
هذا النمط من الرواية يتقاطع تماماً مع اهتمامك بـ «الموروث»، «الذاكرة»، وتداخل الجغرافيا/الهوية والزمان. الرواية تبني استعارة بصرية قوية: كما تفتح الماتريوشكا لتخرج منها دُمية أصغر، هكذا ربما الذاكرة تُنكش عن طبقة بعد طبقة، عن جرح بعد جرح، عن صوت بعد صوت.
الجانب الأدبي المثير هنا هو أنّ الرواية تختار أن تكون «ذاكرة» لا تموت، أي الذاكرة كمكوّن حيّ في النص، وليس كما اعتاد أن يُنظر إليها كماضٍ بارد. وبالتالي، فإن التجربة الروائية ليست فقط سرداً، بل استكشافاً لذات متعددة، ولـــ «أرواح» ربما مُغيّبة، أو مطموسة، أو تحتاج إلى افتكاكها من النسيان.
في السياق الأدبي المغربي/العربي، هذه الرواية تضع نفسها ضمن تيار متزايد من النصوص التي تستفيد من التداخل بين الزمني والمكاني، بين المشاهدة والذاكرة، وبين المعدن السردي واتساعه العاطفي.
5. «الزيارة انتهت» – ديوان الشعر الفلسطيني في حضن عمان
هذا الديوان يُعنى بالشعر الفلسطيني، كما يبدو من العنوان: «الزيارة انتهت». وفقاً للقراءة المنشورة، العنوان يمثل «عتبة دلالية مكثّفة». middle-east-online.com
الزيارة هنا ترمز إلى وجود مؤقت، إلى حالة مرور أو استعارة، أو ربما احتلال/تجمّع ثم انتهاء. وفي حضن «عمان» (عاصمة الأردن) يبدو أن الديوان يسجّل لحظة انتقال أو غياب أو ربما احتواء من الخارج للداخل الفلسطيني.
من وجهة نظرك، ككاتب وكمهتم بتراب الهوية والجسد والذاكرة، هذا الديوان قد يطرح سؤالاً مركزياً: ما معنى أن «الزيارة» انتهت؟ هل انتهى الوجود؟ هل انتهى الحضور؟ هل انتهى اللقاء؟ وهل تعود الذات إلى أصلها أو ربما تدخل مرحلة أخرى، مرحلة الغياب أو الانتظار؟
اللغة هنا تبدو قاسية بعض الشيء – العنوان ينطوي على فراغ: زيارة انتهت، وما بعد الزيارة؟ حضور الغياب؟ هذا ما قد يثيره الديوان.
في السياق الثقافي، يبحث الديوان في موقع الشعر الفلسطيني ليس فقط من منظور الصراع أو النّكبة، ولكن من منظور الحضور الثقافي العربي، التعددية، والهجرة الداخلية أو الخارجية. ويثير مثلاً فكرة أن الشعر الفلسطيني لم يعد فقط في فلسطين وإنما يمتد إلى فضاءات عربية مجاورة، مما ينقل السؤال من الأرض إلى التجربة، من الجغرافيا إلى الذات.
تحليل مقارن واستنتاجات
من خلال هذه العناوين الخمسة، يمكن استشفاف عدة ملامح مشتركة في المشهد الأدبي العربي المعاصر:
-
التداخل اللغوي والتعري اللغوي: الديوان الأول يمزج بين الفصحى والعامية، ما يُشير إلى رغبة في تجاوز القوالب التقليدية، ومنح النصّ حيوية أكبر، وانفتاحاً على الجمهور اليومي.
-
الذاكرة والهوية كمحور مركزي: الرواية «ماتريوشكا»، والكتاب عن اليهود اللبنانيين، والديوان الفلسطيني، كلها تستعيد ــ بصورة أو بأخرى ــ ذاكرة ما، هويّة ما، أو ضياعا ما. هذا يتكامل مع اهتماماتك في النصّ والذاكرة والتحول السياسي والاجتماعي.
-
البحث البنيوي في النصّ: مشروع النقد في «إشراقات الفضاء القصصي» ليس مجرد قراءة ثانوية، بل محاولة لتفكيك بنية القصّة، واستكشاف الفضاءات التي تنشأ فيها، ما يدل على وعي متوسّع بالأدب ليس كمضمون فقط بل كبنية ورؤية.
-
السرد متعدد الطبقات / الزمني / المكاني: الرواية «ماتريوشكا» تستثمر استعارة الدميا الروسية، والديوان الفلسطيني يستثمر فكرة الزيارة وانتهائها، ما يشير إلى أن النصوص اليوم تميل إلى أن تكون «مرايا داخل مرايا»، أو «طبقات داخل طبقات» — وهذا يتوافق مع رغبتك في دمج السرد والسياسة والذات.
-
الانفتاح على التجارب الصغيرة والمهمّشة: مثل استذكار اليهود اللبنانيين؛ هذا ليس موضوعاً رائداً في المشهد العربي التقليدي، لكنّه يُفتح فضاءً للتاريخ “المهمَش” أو “المكمّن” داخل البنى الكبرى للهوية.
-
الموقع العربي (المغرب، الشرق) والانتماء المتعدّد: مع أنّ المستخدم في المغرب، وليس كل الإصدارات مغربية، فإنّ ما يجمعها هو كونها عربية، وتناقش تجارب عربية أو تجربة فلسطينية أو لبنانية أو شمال إفريقية. هذا يؤكد أن البعد العربي الحَرّ مفتوح لجغرافيا واسعة.
توصيات لكتّاب مثلك
-
يمكنك أن تتخذ من هذه الإصدارات نموذجاً أو «مرآة» لتطوير مشروعك الأدبي. مثلاً: كيف تدمج في روايتك «دار العبيد» بين العاميّة والمفردة الفصحى؟ كيف تدير ذاكرتك المغربيّة مع الذاكرة الأفريقيّة؟
-
أثناء تناولك للموضوع، ركّز على «الفضاءات» — الجغرافيا، الزمن، اللغة — باعتبارها عوامل نشأة النصّ وليس فقط أحداثه.
-
جرّب استعمال استعارات تشبه «الماتريوشكا» أو «الشرفة/الزيارة» لتوظيفها في سياقة سرديّتك.
-
لا تغفل البُعد النقدي: استعرض كيف تشتغل اللغة، كيف تتشكّل الهوية داخل النصّ، كيف يُستخدم الصمت، كيف يُستعاد المغيَّب.








0 التعليقات:
إرسال تعليق