مقدمة يشهد السرد الروائي المعاصر تحوّلاً جذرياً في بنيته، ووظائفه، ومجالات تلقّيه، بفعل الثورة الرقمية وتعدد الوسائط المرئية والصوتية والتفاعلية. لم يعد النص الأدبي فضاءً مغلقاً يحكمه الورق، بل أصبح مشروعاً سردياً مفتوحاً يمتد عبر منصات شتى: ألعاب الفيديو، القصص المصوّرة، الأفلام، التطبيقات التفاعلية، والبودكاست. هذه البنية الجديدة التي تتجاوز الوسيط الواحد تُعرف اليوم بمفهوم الرواية الترانسميدية أو Transmedia Novel، وهي ظاهرة تزايدت دراستها داخل حقول السيميائيات، ودراسات الميديا، ونظريات التلقي.
تركز هذه الدراسة على تحليل هذا النمط السردي من خلال مقاربة مفاهيمية ونقدية، تُبيّن خصائصه البنائية، وتحولاته الدلالية، وتأثيره على مفهوم المؤلف، ودور المتلقي، وجغرافيا السرد. كما تستعرض الدراسة نماذج عالمية بارزة، وتناقش التحديات النظرية التي تطرحها الأعمال الترانسميدية على التقليد الروائي الكلاسيكي.
أولاً: التحولات البنيوية للسرد في عصر الوسائط المتعددة
تقوم الرواية الترانسميدية على مبدأ أساسي مفاده أن الحكاية لا تُروى من خلال وسيط واحد، بل عبر منظومة من الوسائط التي يشكل كل واحد منها إضافة معرفية وجمالية مستقلة. فالنص الورقي يوفر البنية السردية المركزية، بينما ينتج الفيلم توسعاً بصرياً للشخصيات، وتقدم اللعبة فضاءً تفاعلياً يسمح للقارئ بلعب دور الوكيل داخل العالم الحكائي، ويقوم الكوميكس بدور الأرشيف البصري للأحداث.
هذا التوزيع الوظيفي يعكس ما يسميه هنري جينكينز بـ"الانتشار الحكائي"، حيث لا تُكرر الوسائط المختلفة القصة نفسها، بل تضيف إليها طبقات جديدة من المعنى. وقد أسهم هذا التوسع في ظهور مفهوم "العالم السردي" بوصفه كياناً مستقلاً، لا مجرد نص.
ثانياً: القارئ بين المتلقي والمشارك
أحد أهم التحولات التي فرضتها الرواية الترانسميدية هو انتقال القارئ من متلقٍ سلبي إلى مشارك فعّال في صنع المعنى. فالأعمال الترانسميدية تُتيح للقارئ أن يدخل الحكاية من منصات متعددة، وأن يختار مساراً معرفياً خاصاً به، وهو ما يجعل التجربة السردية مختلفة من قارئ إلى آخر.
هذه الطبيعة التفاعلية أعادت تشكيل علاقة الفرد بالنص، كما أنها تتناغم مع نظريات التلقي التي طورها فولفغانغ إيزر وهانس روبرت ياوس، حيث يصبح القارئ جزءاً من إنتاج المعنى وليس مجرد مستهلك له. في الرواية الترانسميدية، لم يعد وجود القارئ هامشياً، بل أصبح جزءاً من بنية العمل.
ثالثاً: موت المؤلف أم تولّد المؤلف الجماعي؟
يطرح الشكل الترانسميدي سؤالاً عميقاً حول موقع المؤلف. إذ غالباً ما تشترك فرق من المبرمجين والرسامين والمخرجين والكتّاب في بناء العالم الحكائي، ما يجعل المؤلف أقرب إلى منسّق للأفكار والوسائط، وليس صانعاً وحيداً للنص. هذا التحول يعيد إلى الواجهة نقاشات "موت المؤلف" عند بارت وفوكو، ولكن من زاوية جديدة، حيث يختفي الصوت الفردي لصالح "مؤلف جماعي" ينتمي إلى منظومة إنتاجية واسعة.
في تجارب عالمية مثل The Matrix Universe أو Halo Narrative World، لم يعد النص المرجعي الوحيد موجوداً، بل حلت محله شبكة من النصوص الوسائطية التي تتكامل لتكوين سرد شامل.
رابعاً: المشهد العالمي للرواية الترانسميدية
عرفت التجربة اليابانية في مجالات المانغا والأنمي والألعاب تطوراً نموذجياً لهذا الشكل السردي. وقد ساهمت "الروايات البصرية" في إنشاء علاقة جديدة بين النص والصورة والصوت، مما جعل اليابان مركزاً لولادة نماذج سردية هجينة أثرت في مسارات الأدب العالمي.
كما تُعد الولايات المتحدة رائدة في مجال السرد الترانسميدي، خصوصاً مع تجارب Marvel وDC Comics التي صنعت عوالم متوازية تمتد عبر الأفلام والمسلسلات والقصص المصوّرة والروايات. أما في أوروبا، فقد بدأت مشاريع رقمية في فرنسا وألمانيا تربط الرواية بالتطبيقات التفاعلية، مما يؤشر إلى انتشار عالمي لهذه الظاهرة.
خامساً: الإشكاليات النظرية والرهانات المستقبلية
رغم جاذبية الرواية الترانسميدية، إلا أنها تواجه عدداً من التحديات. فهناك خشية من أن تؤدي كثرة الوسائط إلى تشتت التجربة أو تهميش البعد التأملي الذي تميزت به الرواية الأدبية الكلاسيكية. كما أن توسع شبكات الإنتاج يجعل العمل الترانسميدي عرضةً للهيمنة التجارية التي قد تطغى على القيمة الفنية.
غير أن هذه المخاوف لا تنفي أن الشكل الترانسميدي يفتح فضاءات جديدة للسرد، ويمنح القصة قدرة على الحياة داخل بيئات متعددة، ويستجيب لطبيعة المتلقي الرقمي الذي يعيش داخل منظومة من الصور والأصوات والتفاعلات المستمرة.
خاتمة
تؤكد هذه الدراسة أن الرواية الترانسميدية ليست مجرّد موضة رقمية، بل هي تطور منطقي للسرد في عصر تقاطع الوسائط. إنها تعيد تشكيل علاقة المؤلف بالقارئ، وتوسع مفهوم النص، وتدفع الأدب إلى خارج حدوده التقليدية نحو فضاءات أكثر رحابة. ومع استمرار التطور التكنولوجي، يُتوقع أن تصبح الرواية الترانسميدية أحد أهم أنماط السرد في القرن الحادي والعشرين، بل وربما البنية المهيمنة للسرد الرقمي مستقبلاً.
المراجع (في الهامش):
-
Henry Jenkins, Convergence Culture: Where Old and New Media Collide, New York: NYU Press, 2006.
-
Paul Levinson, New New Media, Penguin, 2009.
-
Marshall McLuhan, Understanding Media: The Extensions of Man, MIT Press, 1994.
-
Robert Stam, Film Theory: An Introduction, Wiley-Blackwell, 2000.
-
Matthew Freeman, Historicizing Transmedia Storytelling, Routledge, 2016.
-
Marie-Laure Ryan, Narrative Across Media: The Languages of Storytelling, University of Nebraska Press, 2004.
-
Journal of Digital Humanities, issue on Transmedia Storytelling, 2018.
-
Geoffrey Long, Transmedia Storytelling: Business, Aesthetics and Production at the Jim Henson Company, MIT Thesis, 2007.








0 التعليقات:
إرسال تعليق