بعد سنوات طويلة من الانتظار والتخطيط، يستعدّ المشروع المغربي الكبير في العاصمة الفرنسية باريس لأن يرى النور أخيرًا، من خلال افتتاح المركز الثقافي المغربي الذي سيتّخذ من الحي اللاتيني الشهير مقرًّا له. يأتي هذا المشروع ثمرة رؤية ثقافية ودبلوماسية تسعى المملكة المغربية من خلالها إلى ترسيخ حضورها الثقافي والحضاري في أوروبا، وتعزيز الروابط مع جاليتها المقيمة في فرنسا، وإبراز غنى التراث المغربي في قلب عاصمة الأنوار.
تعود فكرة إنشاء هذا
المركز إلى ما يقارب عقدًا من الزمن، حين أُعلن لأول مرة عن نية المغرب إقامة فضاء
ثقافي يعكس هويته المتعددة في باريس. وقد وقع الاختيار على حيّ "سان ميشيل"
في الدائرة الخامسة من المدينة، وهو من أكثر المناطق رمزية ثقافيًا، حيث يحتضن جامعات
ومعاهد ومكتبات عريقة.
سيتّخذ المركز موقعه
في شارع "بلفوغار سان ميشيل"، على قطعة أرض مملوكة للمملكة المغربية كانت
في السابق مقرًّا لجمعية الطلاب المسلمين من شمال إفريقيا. ويمتدّ المبنى على مساحة
تُقدّر بألف وأربعمئة متر مربع، تضمّ مكتبة، وقاعة محاضرات، وصالات عرض، ومقهًى ثقافيًا،
وأروقة مخصّصة للأنشطة الفنية والأدبية.
من الناحية الهندسية،
تولّى تصميم المشروع مكتب المهندسين المغاربة "ولعلو"، اللذين استلهما
في بنائه روح المدن العتيقة المغربية، من خلال الواجهات المكعبة المتراكبة، والممرّات
الداخلية التي تُحاكي أزقة فاس ومراكش والرباط.
أما من الناحية الرمزية،
فقد جرى الحرص على أن يجمع المركز بين الأصالة المغربية والحداثة الباريسية، في توازن
يجسّد انفتاح المغرب على العالم مع حفاظه على هويته الجمالية المتجذّرة.
لا يهدف المركز إلى
عرض الثقافة المغربية فقط، بل يسعى إلى أن يكون جسرًا متينًا بين المغرب وفرنسا، وبين
الجالية المغربية والبلد الأم. فهو مشروع دبلوماسي بامتياز، يندرج ضمن سياسة المغرب
في تعزيز القوة الناعمة وتوظيف الثقافة كأداة للحوار والتقارب بين الشعوب.
سيوفّر المركز فضاءات
مفتوحة للفنانين والكتّاب والباحثين المغاربة والفرنسيين على حدّ سواء، من خلال برامج
منتظمة تشمل الندوات الفكرية، والعروض الموسيقية، والأنشطة السينمائية والمسرحية، والمعارض
التشكيلية. كما سيخصّص أجنحة للتعريف باللغة العربية والأمازيغية، إلى جانب ورشات فنية
للأطفال والشباب من أصول مغربية.
من المرتقب أن يتمّ
الافتتاح الرسمي للمركز في الأشهر القادمة، بحضور شخصيات ثقافية وسياسية من المغرب
وفرنسا، وقد يتزامن مع زيارة ملكية مرتقبة لجلالة الملك محمد السادس إلى باريس. ويُنتظر
أن يتضمّن برنامج الافتتاح عروضًا فنية مغربية ومناقشات فكرية حول الحوار الثقافي المتوسطي.
كما يجري التحضير لتعيين
مدير عام وفريق إداري يشرفان على تسيير المركز وضمان استدامة أنشطته، وفق رؤية مغربية
حديثة تجمع بين التنظيم والابتكار.
يحمل المشروع بُعدًا
ثقافيًا عميقًا، إذ يؤكّد على أن المغرب لم يعد يكتفي بتصدير تراثه المادي والمعنوي،
بل يسعى إلى أن يكون فاعلًا ثقافيًا عالميًا. فالمركز ليس مجرد مبنى للعرض، بل مؤسسة
للتفاعل الثقافي، ومنبر لتقديم صورة المغرب كبلد يزاوج بين الأصالة والتجديد، بين التراث
والتكنولوجيا، وبين الثقافة الوطنية والانفتاح على الآخر.
إن اختيار موقع المركز
في قلب باريس ليس صدفة، بل رسالة رمزية مفادها أن الثقافة المغربية جزء لا يتجزأ من
المشهد الثقافي العالمي، وأنها قادرة على الحوار بلغة الفن والإبداع مع جميع الشعوب.
يُنتظر أن يسهم هذا
المركز في خلق دينامية ثقافية مستدامة، وفي تعزيز الروابط بين المثقفين والمبدعين المغاربة
ونظرائهم الفرنسيين والأوروبيين. كما سيشكّل فضاءً للتلاقي والتفكير المشترك حول القضايا
الإنسانية والبيئية والفنية التي تشغل العالم اليوم.
ويُعدّ هذا المشروع
خطوة جديدة في مسار المغرب لتعزيز حضوره الثقافي في الخارج، بعد نجاح مؤسساته المماثلة
في مدريد وبروكسيل ومونتريال.
فهو لا يعبّر فقط عن
إرادة سياسية، بل عن وعي حضاري بأن الثقافة هي الجسر الأمتن بين الأمم، وأنها السبيل
الأجمل لترسيخ صورة المغرب بلدًا للتنوّع والتسامح والإبداع.
بهذا المركز، يمدّ
المغرب يده مجددًا إلى العالم، لا عبر الخطابات السياسية أو الاقتصادية، بل عبر لغة
الفن والمعرفة التي لا تحتاج إلى ترجمة. إنها رسالة تقول إن المغرب، بتاريخ حضارته
الممتدّ من فاس إلى مراكش ومن طنجة إلى الداخلة، قادر على أن يكون حاضرًا في باريس
بروحٍ مشرقة، وبصوتٍ ثقافيٍّ عالميٍّ يليق بمكانته.








0 التعليقات:
إرسال تعليق