الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأحد، نوفمبر 09، 2025

من «فيزا فور ميوزيك» إلى دبلوماسية الكتاب والسينما بقلم: عبده حقي


تمهيد : لا تُقاس قوة الثقافة بعدد المهرجانات أو العناوين البراقة فحسب، بل تُقاس بقدرتها على خلق الأثر: أثرٍ يسمع ويُرى ويُتَرجَم إلى فرصٍ، وشبكات، وأسئلة جديدة حول الهوية والمستقبل والاقتصاد الثقافي. خلال الشهور الأخيرة، تكاثرت المؤشرات التي تُظهر أن المغرب ليس مجرد «مشاركٍ جيد» في الدورة العالمية للصناعات الثقافية والإبداعية، بل لاعبٌ مُبادر يُحاول صوغ أجندته وتوسيع خرائط نفوذه الرمزي عبر الموسيقى والكتاب والسينما والفنون الحيّة.

الموسيقى كدبلوماسية شعبية: الرباط على إيقاع «فيزا فور ميوزيك»

إعلان برنامج الدورة الثانية عشرة من «فيزا فور ميوزيك» (19–22 نونبر 2025) جاء بمثابة تأكيدٍ لاستدامة الرباط كملتقى احترافي للموسيقيين والمنتجين والمديرين الفنيين من إفريقيا والعالم العربي وأوروبا. المعرض/المهرجان لا يكتفي بالعروض، بل يحيطها بمنظومة لقاءاتٍ مهنية وندوات وتدريبات، ما يجعل الموسيقى هنا لغةَ تفاوضٍ على الحقوق والجولات والترويج، قبل كونها حفلاتٍ تُبهج الجمهور. إن أصوات الرباط في هذه الأيام لا «تملأ الفضاء» وحسب؛ إنها تُفاوض عليه وتعيدُ هندسة مسارات التبادل بين الشمال والجنوب، وتُظهر الموسيقى أداةً ناعمة لصناعة الصورة والهوية الحيّة للدولة-المدينة. 

سينمانا في أوروبا: من مهرجانات الداخل إلى التتويج الخارجي

حين يُعلن عن مشاركة فيلمين مغربيين في المسابقة الرسمية لمهرجان بروكسيل—«Les Fourmis» و«Une Histoire de vacances»—فإن الخبر يتجاوز حدود حدثٍ فني إلى كونه «برهان جودة». فالأفلام التي تعبر نحو منصّات أوروبا هي، عادةً، تلك التي استطاعت المزج بين حساسية محليّة صادقة وصنعةٍ فنيةٍ تُخاطب المتلقي العالمي. هنا تتجلى قيمة منظومة الدعم والتكوين والتوزيع داخل البلد: مهرجانات محليّة تُتيح الاحتكاك، لجان قراءة، منصات عروض في المدن، وصناديق دعمٍ تُموِّل وترافق. وما إن تكتمل السلسلة حتى يصبح الطريق سالكًا إلى مسابقاتٍ خارجية تُعيد بدورها تسليط الضوء على «المشهد المغربي». 

«نور الرياض»: فنّ الضوء وخرائط الجوار الثقافي

ليس بعيدًا عن المغرب، تستعد الرياض لنسخةٍ جديدة من «نور الرياض»، إحدى أكبر تظاهرات فنون الضوء في المنطقة. أهميّة متابعة هذا الحدث لا تنبع من «جاذبية الجار» فحسب، بل من كونه يقترح صيغةً عربيّةً طموحة لتوظيف الفن في الفضاء العام: أعمال تركيبية عملاقة، ووصلٌ بين الفن والتقنية والسياحة الحضرية. بالنسبة إلى المشهد المغربي، يُطرح السؤال: كيف يمكن لمدنٍ كالدّار البيضاء والرباط ومراكش وفاس أن تُنشئ «موسم الضوء» الخاص بها، مستفيدةً من خبرة الصناعات الثقافية، ومُحوّلةً الميادين إلى قاعات عرض مفتوحة؟ إن مقاربة «الفنّ في المدينة» باتت جزءًا من التنافس الإقليمي على الجاذبية الثقافية. 

الكتاب كجسر بعيد: المغرب ضيف شرف في بنما

حين تُعلن وسائل الإعلام أن المغرب ضيف شرف «معرض بنما الدولي للكتاب 2025»، فإننا أمام لحظةٍ رمزية تُذكّر بأن الثقافة لا تتجه فقط نحو أوروبا والشرق، بل نحو أمريكا اللاتينية أيضًا. هذا الاختيار يفتحُ نوافذ على قرّاء جدد، ومترجمين محتملين، وأسواقٍ للحقوق والنشر المشترك. إن حضور المغرب في بنما ليس «استعراضًا» بل هو جزء من سياسة ثقافية تُراكم «قصص نجاحٍ صغيرة» في معارض الكتب، تجمع بين الوفود المهنية والندوات وحفلات التوقيع وتبادل الخبرات حول سياسات القراءة. هكذا تشتغل «الدبلوماسية الثقافية» بوصفها أداةً ناعمة تُصيغ سردية بلدٍ يُراهن على تعدّديته اللغوية والثقافية. 

بنية الدعم بين الرؤية والحوكمة: دروس من أرقام «المركز السينمائي»

لا وجود لسينما وطنية بدون حوكمةٍ تمويلية شفافة ومُستقرّة. هذا ما تؤكده دفعات دعم 2025 التي أعلنها المركز السينمائي المغربي، حيث خُصّصت اعتماداتٌ لعددٍ واسعٍ من المهرجانات، مع تركيزٍ على الفعّاليات ذات الأثر الدولي مثل مهرجان مراكش الدولي للفيلم. أهمية الأرقام ليست في حجمها فقط، بل في رسائلها: توزيعٌ يُراعي التوازن بين المركز والجهات، وبين «المهرجان-الماركة» والمبادرات الصاعدة. والتحدّي الآتي هو ربط الدعم بمؤشرات مفعولٍ قابلة للقياس: جذب السياح الثقافيين، خلق فرص الشغل الإبداعي، تسويق الوجهات، وتوليد شراكات إنتاجٍ مشتركة.

الاقتصاد الثقافي: من «المهرجان» إلى «المنظومة»

قد يُختزل المشهد أحيانًا في عدد التظاهرات، لكنّ بوصلة 2025 تُشير إلى ما هو أبعد: تحويل الفعاليات إلى منظومةٍ اقتصادية. «فيزا فور ميوزيك» ليس حفلة، بل سوق موسيقى؛ و«معارض الكتاب» ليست أجنحة ملوّنة، بل منصّات حقوقٍ وتوزيع؛ والمهرجانات السينمائية ليست سجادًا أحمر، بل جسور إنتاج وتكوين وتوزيع. هنا تبرز الحاجة إلى تكامل السياسات:

  • تعليمٌ فني يُخرج تقنيي صوتٍ وإضاءةٍ ومنتجين ومديري مشاريع ثقافية.

  • تمويلاتٌ مرنة ترافق الشركات الإبداعية الناشئة (Startups ثقافية).

  • بنى تحتية: قاعات عرضٍ صغيرة ومتوسطة، مسارح أحياء، فضاءات فنية مستقلة.

  • منصات قياس الأثر: جمهور، إيرادات، فرص عمل، إعلام دولي، وسياحة ثقافية.

صوت المدن: الرباط، مراكش، الدار البيضاء… ثم الجهات

المدن المغربية لا تتشابه ثقافيًا؛ لكل مدينة «نبرة». الرباط تُراكم رأس مالٍ رمزي بوصفها عاصمة الفنون الحيّة والموسيقى والمؤتمرات الثقافية؛ مراكش تحمل «كاريزما» الصورة والسينما والسياحة الثقافية؛ الدار البيضاء—باقتصادها وحجمها—بحاجةٍ إلى سياسة «مسارح صغرى» ومشاريع فنونٍ في الفضاء العام تُعيد وصل المواطن بوسط المدينة. أمّا الجهات، فالقصة معها قصة «عدالة ثقافية» و«استدامة»: مهرجاناتٌ أصغر لكنها مُستمرة، قوافل قراءة، صالونات كتابٍ جهوية، ودور ثقافةٍ مُفعّلة. إن ربط الدعم المركزي بمشاريع الجهات ليس تفضّلًا، بل شرط حياة لثقافةٍ وطنية متوازنة.

اقتباسات كمدخلٍ للنقاش

  • «الفنُّ ليس ترفًا؛ إنه طريقةُ مدينةٍ في أن تُحدّث نفسها». هذا القول يلخّص ضرورة أن تُصبح الفنون جزءًا من التخطيط الحضري، لا «ملحقًا» بفعاليات موسمية.

  • «الكتابُ سفيرٌ صامتٌ لبلادك»، عبارة تتكرر في كواليس معارض الكتب وتذكّر بأن كل ترجمةٍ أو صفقة حقوقٍ هي «استثمار رمزي» طويل الأمد.

  • «المهرجان اقتصاد»، جملةٌ قد تبدو صادمة لذائقةٍ تُحبّ الشعرية، لكنها تحمي المهرجانات من مزاج التمويل وتربطها بالمؤشرات.

أسئلةٌ مفتوحة للمستقبل القريب

  1. كيف نرفع جودة الحوكمة؟ عبر نشر تقارير دورية لقياس أثر كل دعمٍ عمومي على الجمهور والاقتصاد المحلي.

  2. كيف نُسرّع الترجمة؟ بإنشاء «صندوق حقوقٍ وترجمة» يستهدف اللغات ذات الأولوية: الإسبانية والإنجليزية والفرنسية، وإفريقيًا: السواحيلية والولوف.

  3. كيف نُسوق الفن المغربي خارجيًا؟ بمنصّات «Showcase» متنقلة تربط مهرجانات الداخل بأسواق أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا جنوب الصحراء.

  4. ما دور الجامعات؟ تحويل كليات الآداب والفنون إلى حاضنات مشاريع ثقافية، وبرامج مزدوجة تجمع التسيير الثقافي بالابتكار الرقمي.

خاتمة بتوقيع

ما يميّز اللحظة الثقافية اليوم ليس كثرة الفعاليات وحدها، بل وضوح الاتجاه: ثقافةٌ تستثمر في صورتها الدولية، تُعيد الاعتبار للمدن والجهات، وتُحوّل الشغف إلى أسواقٍ وفرصٍ وذاكرةٍ حيّة. وإذا كان العام الجاري قد قدّم دلائل دامغة—من «فيزا فور ميوزيك» إلى حضور المغرب في بنما، ومن دعم المهرجانات إلى المشاركة في بروكسيل—فإن المحكّ الحقيقي هو الاستدامة: كيف نحفظ الإيقاع؟ كيف نُقنْنِن النجاح ونُقاسِس الأثر؟ وكيف نكتب هذه الخريطة بحيث تُقرأ بلغات العالم دون أن تفقد لسانها الأصيل؟

— عبده حقي


0 التعليقات: