الفن الرقمـي مدخل لفهم وسائطيتة وعرض جماليتة التواصلية :لورامس مالكول
((العلاقات بين الإنسان والفن بصفة عامة ليست علاقة مرتبطة برغبة وتعلق فقط .. بل إن المبدع يترك العمل الفني لذاته .. حرا.. يتركه في مواجهة نفسه .. إن العمل الفني مجردا من دافع الرغبة يصير موضوعا لايهم سوى الجانب النظري للفكرالنقدي . لذلك فالعمل الفني وباعتماد وجوده الحسي ليس في حاجة إلى حقيقة واقعية محسوسة أو حقيقة حية )) : هيغل
مع نهاية القرن العشرين ظهروبشكل تدريجي شكل إبداعي فني متفرد .. شكل أسهم في تحديد الوسائل والغايات الجمالية كما غيرمن جهة أخرى وبشكل أقوى رؤيتنا الفلسفية للفن .. يتعلق الأمربتيار فني إستثمرإمكانات الحاسوب والإنترنيت وبشكل أوسع التكنولوجيات الرقمية الحديثة وجعل منها ريشته وقماشه وأذاته الإبداعية وسنده : إنه الفن الرقمي ، الذي ظهركفن بعيد عن الإلهام الروحي الذي نفخه فيه أفلاطون ، وبعيد أيضا عن كونه موضوعا للتأمل كما تصور ذلك هيغل ..
إن العمل الفني الرقمي ليس سوى توليفة من ( بيكسيلات ) (البيكسل هي الوحدة الرئيسية لقياس مساحة الصورة) على الحاسوب ناتجة عن تظافروتكامل معقد بين عمل الفنانين وعمل المهندسين والمبرمجين والعلماء . إن الميثولوجيا الرومانسية التي جعلت من الفنان إنسانا معزولا في برجه العالي ، منفردا في وحدته ومسكونا بمس الإلهام ... إن مثل هذه النظرية قد تحولت إلى نظرية جمالية تقنية تهتم بإبداع مرقمن وبعمل لا يعترف بنقطة النهاية .
منذ ستينات القرن الماضي إرتبط الفنانون بالحواسيب والتكنولوجيات الجديدة باعتبارها وسائل للبحث الجمالي ، وباعتبارها وسائط للعرض . ولم تعد الرقمية سندا ناقلا للفن فحسب ولكنها أصبحت أيضا وسيطا فنيا في حد ذاتها .
إن هذا الشكل الفني الذي صارأكثر فأكثرموضوعا للحركة الثقافية والذي دفع بالعديد من المفكرين إلى تنظيره ، قد طرح أيضا وبشكل متوازي أسئلة هامة حول فلسفة الفن وأدوات التواصل وذلك بتجديد جمالية الإبداع ودورالوسائطية وعملية التلقي وتأسيس تصور ل (جمالية التواصل)
هذه التصورات لايمكن تحديدها وتعريفها بكل تعقيداتها وصورة راهنيتها إلا باعتماد دراسة موازية ومتساوقة .. بمعنى أنه يجب علينا هنا أن نحدد ونسائل أبعاد حقل دراستنا .
هناك العديد من الخطابات النظرية حول الفن والتواصلية التي أسهمت في خلق ميثولوجيا تتعلق بالمظهرالإيجابي والصدامي والإنقلابي أيضا لظهورهذا الفن الرقمي ، مثلما كان الأمربالنسبة للفن المعاصر.
كيف يمكن للمعلوماتية أن تنتج فنا خالصا ؟ كيف يمكننا إعتبارمجموعة من المعطيات البرمجية والرياضية بمثابة إنجازوتحقيق لتصورذاتي وجمالي ؟ فعلى مستوى العملية الإبداعية تظهرالعديد من التغييرات ، باعتبارها تقلبات جذرية . فالعمل الفني لم يعد يحدد نفوذ حركته عن طريق جرة القلم أولمسة الريشة كما لم يعد العمل الفني يحدد الفنان باعتباره المبدع الوحيد في ورشته أو باعتبارفنه عملا متكاملا إبداعيا يحفزالمتلقي على التأمل ، بل أصبح إنتاجا لعمل فني جماعي يساهم فيه كل من الفنان والتقني والسينوغرافي ولم نعد نتلقاه باعتباره موضوعا إبداعيا للتأمل السلبي وباعتباره مجرد علاقة مع المشاهد المتلقي بل بمثابة خطاب آمر(imperatif) بالمعنى اللغوي للكلمة موجه للجمهور. وعلى مستوى العلاقة بين الأعمال الفنية والجمهورفنعتبرأن الفن الرقمي قد فرض إعادة تحديد لأساليب تقييم وتثمين العمل الفني الرقمي باعتبارأن هذا الفن لم يعد منغلقا على حدوده الفنية ولكنه صارأذاتا تواصلية ، جمالية وفي نفس الوقت عملا فيزيقيا وتصوريا موجها لمتلقي ينفعل له وينفعل به ... إنها علاقة قد تم تصورها سلفا على غرارحواربين طرفين ، كما يظهرايضا هذا الفن على شكل عملية تواصلية إرغامية أوعلى شكل رد فعل آمر يرغمنا على المشاركة من أجل تقاسم متعته الجمالية. إن مفهوم (أمر) مفهوم فني في هذا السياق وهويورط بشكل دقيق فكرة حاضرة بإلحاح في الفن الرقمي وتتعلق باقتراح عملية التلقي وخلق علاقة بين العمل الفني والمشاهد المهيئ قبلا من طرف الفنان على المستوى المادي والإدراكي .
يبدو العمل الفني الرقمي كما لو أنه قد أعاد طرح مسألة أساليب الوسائطية الفنية وذلك لكونه عمل فني خلق أساسا للمشاهدة ويطمح الفنانون إلى تجريده من قدسيته والعمل في المقابل وبإلحاح على دمقرطته ثم جعله أيضا نوعا من جمالية ضرورية لاتكتسب معناها إلا في علاقتها بالجمهوربعد أن كانت علاقة فردانية بالأساس. إن مفهوم الوسائطية الذي يمكن تعريفه بشكل عام كونه الصيرورة التي تمكننا من توطيد علاقة وسيط ما بين مكونات أومفاهيم ... ذلك الوسيط الذي نظرله بطريقة خاصة (أنطوان هينيون ) باعتباره (الأثرـ العودة) أي مستوى من التلقى يبني فيه المشاهدون الأعمال التي تعرض أمامهم وتبني فيه الأعمال المشاهدين أيضا . وهذا مظهرجلي لنظام العلاقة التي تطورت كثيرا في المجال الفني الرقمي . وسائطية الفن الرقمي تبدو أنها قد أسست لتعبيرحسي وبليغ عن فكرة التفاعلية وذلك عندما يتم تحديدها باعتبارها منظومة تواصلية تمت صياغتها بجمالية حيث الإنسان والأشياء ينتميان إلى فضاء كلي وتفاعلي .إن موقف الجمهورأو بالتحديد الزوارمن غاليريا أومعرض أوموقع إنترنت خاص بالفن الرقمي لايمكن إلا أن يتغيرويتحول بسبب إستتيقية الوسائطية هاته حيث يصبح المشاهد (مشاهد / فاعل ) وذلك لكونه فاعلا في العمل الفني وهو يشاهد هذا النظام الجمالي كوساطة بين العمل الفني ونفسه .
أخيرا كيف للوسيط بمعنى المؤسسة أومجموع الأشخاص المهتمين بالتقييم في الزمان والمكان ، أن يقيم الوسائطية الجمالية التي يقترحها الفنان ، هؤلاء الأشخاص الوسطاء هم من توكل إليهم عملية التقييم . إن الوسيط الفني لايمنحنا مثلما هو الأمرفي المعرض الكلاسيكي علاقة عمودية بين الأشخاص والأشياء ولكنه في المقابل يمنحنا علاقة تفاعلية بل علاقة إبداعية تفاعلية بين جمالية التواصل المفترضة و(المشاهدين / الفاعلين) من دون الإقتصارعلى تجديد تصوراتنا وإدراكنا وميثلوجيتنا الإبداعية ، فالفن الرقمي يروم المساهمة والمشاركة في تغييرعلاقتنا بالعمل الإبداعي ويعطينا ولادة جديدة لجمالية حقيقية للوسائطية الفنية ، وبهذا المعنى يبدو من غيرالمعقول رؤية أساليب الوسائطية الفنية التقليدية والمنجز الفني بواسطة جمالية صورية كلاسيكية تطبق على هذا الشكل الفني الذي يعمل على تجديد جمالية تقليدية . فيما يبدو أن الخطابات الإديولوجية للفن الرقمي لاتلح سوى على الملمح الثوري المجرد تماما من كل تقديس روحاني للفن وإنما هي تلح أيضا على صعوبة عرضه مايعني بشكل ما تعطيل إنخراطه في المؤسسة.
كيف يمكن للمؤسسات أن تتبنى هذا الحقل الفني الذي يرفض كل شكل من أشكال الوساطة التقليدية ؟ كيف يمكن عرض أعمال هؤلاء الفنانين على الجمهور.. الفنانون الذين يترقبون من أعمالهم الفنية أن تعيد تحديد إطارات وساطتها مع محيط التلقي.
في سنة 2006 حاولت العديد من منظمات الفن الكلاسيكي ، العصري أو الرقمي على (الأون لاين) أو خارج (الأوت لاين) مواجهة هذه الإشكالية والإجابة عن الأسئلة المختلفة جدا عن المتطلبات الجمالية الملحة والتواصلية الصعبة والمتناقضة في غالب الأحيان مقارنة مع هذا الشكل الفني الجديد . إن هذه المنظمات التي تشكل هنا حقل دراستنا تطرح تحدي هام وذلك ليس بمحاولتها تحديد أدوات عرضها وتواصلها قصد تقييم الأعمال على مستوى إحتمالاتها العلائقية والتصورية فحسب ولكن أيضا بسبب فهمنا المستعصي لمستوى تعريف هذا الحقل الفني .
إلى أي حد إستطاعت الأجيال الأولى لمعارض الإبداع الرقمي أن تغني أو تفقرالخطابات النظرية المتعددة والممأسسة المهتمة بالفن الرقمي حول إشكالية عرضه وحول المفهوم الجمالي للتواصل.؟
إن إكتشاف مختلف ميثولوجيات الخطاب والتصورات النظرية الممأسسة والفنية للإبداع الرقمي ثم التحليل لمختلف أدواته للعرض توجب علينا البحث عن أجوبة لهذه الإشكالية . و الآن يمكننا تشكيل بعض الفرضيات كمدخل لتوجيه عرضنا .
بداية يبدوالفن الرقمي كمفهوم غامض عند ملتقى العديد من التيارات الفنية والتصورات الإستتيقية ، الفن الذي تتعدد حدوده بتعدد الإديولوجيات وتعدد صواتية تعريفاته الخاصة .وسنحاول إغناء وإبرازهذه الفرضية الأولى من خلال الأبحاث الوثائقية النظرية والتاريخية حول الفن الرقمي . وفي جانب آخر تبدونظرية إستتيقا التواصل أنها ستحاول أن تعيد تعريف العلاقة مع العمل الفني بشكل أكثر تعقيدا وأقل وضوحا بالنسبة للجمهورحيث يروم هذا التعريف دمقرطة متجددة للفن من جهة ومن جهة أخرى خلق علاقة فردانية وجمالية مع الجمهور.
إن فرضية المدخل هاته ستوضح وتبرزمن خلال التناقض والتلاقي بين المبدعين ووسائطية هذا الحقل الفني وعبردراسة شهاداتهم وآرائهم ، أخيرا إن غموض المفاهيم قد يتسبب في إلتباس على مستوى الوسائطيات التي تظهرمن خلال تعدد الأساليب السينوغرافية والتواصلية للتقييم وتقديم الأعمال الفنية الرقمية .
هذه الفرضية ستتعمق من خلال الملاحظة والتحليل المقارن لمختلف الأدوات السينوغرافية والتواصلية. وموضوع هذا البحث هو دراسة هذا المسارالناشئ الجديد للفن الرقمي وذلك بمساءلة مفاهيمه وخطاباته الخاصة التي تخصب هذا الفن ثم من جانب آخرإن مواكبة وطرق تقييمه وتقديمه وعرضه هي التي تمنحه الولادة من جديد وتخلق إنوجاده الأقرب من الجمهور. وعلى مستوى الدراسات الأكاديمية ، إن هذا البحث يرتكزعلى مجموعة من الأبحاث التاريخية والوثائقية ويرتكزأيضا على الأبحاث بمساعدة الفعاليات الفنية وبمساعدة المهتمين الممأسسين له حيث من خلال كل هذا سنواجه المقاربات السوسيولوجية والجمالية والتواصلية . ومن جانب آخرعلى مستوى المقاربة البراغماتية . إن هذا التفكير يتغذى من التردد الشخصي على هذه الأشكال الفنية ولقد عمدنا إلى إقصاء المعارض (الخارج ـ فضائية) للفن الرقمي من دراستنا ، بمعنى تلك التظاهرات المنظمة من طرف المؤسسات الثقافية أو الجماعات المحلية والتي تدور في فضاءات خارجية كالشوارع والساحات العامة مثلا وبفضل هذا البحث المزدوج سنؤسس رؤيتنا على عملية الترحال من جهة بين المفاهيم والخطابات التي تتعرض لتعريف وتأويلات متعددة بشكل مستمرلهذا الشكل الفني على مستوى جمالية تصوراته الوسائطية ومن جهة ثانية الأدوات التواصلية والجمالية للتظاهرات السابقة والراهنة للإبداع الرقمي . وبتجميعنا للمقاربات النظرية والبراغماتية يمكن إضاءة التطورتدريجي لهذا الفن الرقمي الناشئ وأيضا توضيح وكشف تصوراته وتحفظات الجمهوروالوسطاء منه وإظهارقدراته الجمالية والمفاهيمية والعلائقية . في الجزء الأول من هذا البحث سنحاول الإحاطة بالتصورات الموضوعية والذاتية للفن الرقمي وذلك بدراسة العديد من الخطابات التي تحاول تعريفه . إن هذا البعد المزدوج للخطابات يفترض مقاربة تاريخية لتطورالفنون الرقمية من خلال التصورات الجمالية الأولى والإستعمالات الفنية للحاسوب وللفيديو والإنترنت ، ثم بعد ذلك سنقوم بتحليل التصورات والخطابات الذاتية التي تتعلق بهذا الحقل الفني والتي سنلامسها من خلال العديد من التعريفات الخاصة ومن خلال أهداف الفنون الرقمية عامة عبرالوسطاء العموميين والبيداغوجيين والمؤسساتيين ... أخيرا إن هذا الموضوع هوالإقتراب من الزاوية الأكثرذاتية بما أنها ستلهمنا الأفكاروالشهادات المتقاطعة لبعض الفنانين وعددا من وسطاء الفن الرقمي على مستوى أسطرة الخلق والإبداع وعلى مستوى التلقي وتصورات وسائطيته .
وفي مرحلة لاحقة سندرس مساراته باتجاه الجمهوروصعوبة تقديمه وعرضه مع تحليل الأدوات والأجهزة التفاعلية والسينوغرافية لمختلف التظاهرات الدالة في الوقت الراهن .وسنعتمد هنا بشكل هام على الملاحظة الفيزيقية لإظهارهذه الأعمال الفنية الرقمية ولكن أيضا على إستكشاف سيمانتيقي لنظم التلقي مع أخذنا بعين الإعتبارأن المعرض كما قال ( دون دافالون ) هو تمازج لهذين البعدين . إن مفهوم الأذات مفهوم بنيوي في عملنا وبحثنا وذلك باعتباره القائم بالضبط التقني للعمل الفني ولوسائطيته ، كما أنه يوفرالإدراك والإنخراط إن لم نقل التوريط المحتمل للمشاهد . على هذا البحث إذن أن يقدم لتنوع الأذوات الراهنة وإظهارها حسب مختلف أنواع المؤسسات وعليه قبل كل شيء ضبط الأدوات الجمالية والإستراتيجيات التواصلية التي تم إعتمادها من طرف مواقع الفنانين الرقميين على الشبكة العنكبوتية حيث سنحاول وضع تيبولوجيا خاصة ثم أخيرا تحليل مختلف الوضعيات التواصلية للأدوات الموجهة للجمهوروالصعوبات السينوغرافية للفن التقليدي من أجل إظهارعرضها الأول للفن الرقمي .
0 التعليقات:
إرسال تعليق