الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أغسطس 23، 2015

رواية زمن العودة إلى واحة الأسياد

هذه المتاهة الجميلة والمتفردة ..السحيقة .. كانت منذ أمد بعيد تركن في ثنايا ملغزة ماأزال أجهل انتماآتها الحقيقية ، كل ماأعلمه أنها زارتني ذات لحظة متلبسة بكل الألوان
والأبعاد والسبل العنيدة التي قطعتها وحيدا مع الملائكة تارة والشياطين تارة أخرى...
كم يلزمني من الوقت كي أعبرهذا الزقاق من جديد ،إن مسافته أمامي لا تتعدى بضع عشرات من الأمتار ، ومع ذلك أخاله عميقا بمسافة نهرلاتنتهي .. بل حين أرقبه من كوة الجدارالمرتجلة في الأعلى ، يبدو هو الزمن كله .. ولكم تغبط نفسي نفسي كثيرا.. على هذا اللإحساس الباطني وأنا أنظرإلى الزقاق القديم يرفل في مسافته الأسطورية .. في امتلائه الباذخ...
من هنا بدأت ذات زمن ومن هنا قررت أن تكون البداية الآن ...
والآن أشعرأن دوامة يمورفي قامتها ضوء قيامي يغشي الأبصار.. مثل نافورة نورانية تتموج كي تنهمرباتجاهي لتجرفني إلى الداخل .. إلى متاهة الحكي , إلى حيث يدري القارئ وقد لا يدري السارد ...
كأن صوتا خافتا يستدرجني ... فمددت يدي ، ثم انغمس دراعي  ثم خطوت في توجس ، فإذا بصعقة مغناطسية تشفط جسمي كله إلى أحشاء النورالقيامي ، وكانت البداية محروسة بليل أغسطس ، تحت حلقة قرميدية .. انخرمت ذات شتاء حيث كان بالإمكان أن أرى زرقة السماء  يسقط من خلالها نورالصيف أورذاذ الشتاءات أومروق بعض طيور(أم حسون ) القادمة من قاراتها المجهولة ، ولكم كنت أطمع في ملاحقتها ومصداقة تغريدات مناقيرها الصفراء  ...
لقد سمعت النداءات في قرارتي مرات عديدة ، كانت في كل مرة ترجني ، تلطمني بقوة كأنما بقدح ماء بارد ، وكنت أتوقف كي أرنوأمامي إلى المسافة التي تتزيى بالسراب ، و كنت أشعركأنني قاهرلكل المسافات بل صارت هذه المسافات الإمتداد الطبيعي لجسدي .
حين كنت أرفع عيني أرى إطاراللوحة فاغرا فاه في كل النظرات الممهورة بالحسرة ، وكنت أتخيل تلك الدمعة المتلألئة تنزلق في توأدة على خد الطفل لتبوح بما يعتمل في النفس من مرارة . كنت دائما ألوم الجدارالمقابل للسداري عن خيانته وكنت دائما أسأله عن تلك اليد المتلفعة بغبارالسفر.. اليد التي دست اللوحة في حقيبتها بكل هدوء وانتشاء .. وغادرت المكان إلى غير رجعة ...
ــ اخرس ياعثمان ، ماذا كنت ستفعل بلوحة قديمة !!؟ هل كنت ستبيعها في البزارات مثل التحفة النادرة ؟!
كنت أنتفض ، أصرخ وأدك الأرض يقدمي وأضرب الجداربقبضاتي وأنا أصرخ بأعلى صوتي ( لقد كانت هنا مطمئنة وآمنة في هذا المكان وعلى هذا المشجب ، فمن أوعزلرحال أن يقدمها للأهالي علامة دامغة على علاقة سلالية وشرعية ؟ا)
وكثيرا ما كنت أتساءل هل كان بالإمكان أن أعثرعليها هنالك بعد رحلة قد لاتبدوآمنة في أغوارالمفازات والعواصف المزمجرة ..
ـــ ( حقا لقد كانت لوحتك رائعة ) هكذا كانت تهمس لي أمي كلما لاحظت تلك الغيمة من الحزن في عيناي ، وكعادتها كانت تربت على كتفي وتضمني إلى صدرها الرؤوم وأخيرا تعدني بأن والدي سيعمل كلما في وسعه كي يسترجعها حين تتواأم الظروف لذلك .. ولم أكن لأثق بكلامها إذ كنت أعتبراستغفالها في ضياع اللوحة مثلما تتحلل أم من وليدها في منعطف ما بالمدينة...
 ولكم كنت أغبط كل الذين عبروا من هذه الباب وخرجوا منها من دون أن يرنوا إلى هذا الجدارالذي مازال يتذكرلوحة كانت كالقلادة على صدره .. أولائك الذين تواطؤوا على اقتراف جرمهم وأنا لم أع بعد معنى أن يكون للإنسان لوحة بحجم هالة كل الماضي ، تختزل كل أبجدية الإنتماء ، وكل تشكلات الجذور وعشق أصول البدايات...
المعطف الرمادي المرقط بامربعات سوداء .. القميص الأبيض المفوف بتطاريزالأبجدية الجميلة .. الأنف المعقوف .. العينين الصغيرتين الرانيتين إلى الأعلى . حينما كنت أمربجانب الجدار، كنت أشعربانخطاف مباغث يطوح بي إلى خلاءات الغياب أو الموت الحقيقي ...
كنت أبحث في أشياء العالم حتى التافهة فيه ، وكنت أعثرعلى كل الأغراض سوى تلك اللوحة.. ولم أشعر إلاّوأنا أخطوحثيثا باتجاه الوالدة في المطبخ أو في السطح او في أي مكان آخر ، وما إن أبادرها بالسؤال حتى تنفض يديها مما هي منشغلة فيه وأنا أقرؤعلى شفاهها عبارات الحسرة والتهدئة وتعدني مرة أخرى أن لوحتي سوف تعود إلى مكانها على الجدار.
دخلت إلى غرفتي ، اتكأت على حافة السداري ، كان الفراغ سيد المكان .. استدرت ، فصادفت المرآة هناك عمودية ، صامتة ترنوإلي .. بدت عميقة مثل بحر هادئ .. مثل سماء منذورة للخريف ... بدأت أتحسس أساريرالسحاب وتقاسيم التشكلات الهلامية ونتوءات الحروف البرانية ... وشعرت لأول مرة كم أنا في حاجة غريزية إلى لوحة صورتي الأولى التي كانت معلقة هناك على الجدار!
مازلت أذكر ذلك الصباح .. أيقظني الوالد باكرا قبل آذان الفجر ، كانت همساته نداءا بالأسماء ولم يكن أمر ايقاظي باكرا يوم الجمعة أمرغريبا عنا ، إذ تعودنا على ذلك منذ أن فتحنا عيوننا على هذا العالم ، كنا نعلم في المساء أن أجسادنا ستخوض معركة ساخنة في موقعة الحمام ضد الأدران التي تعلق بنا طيلة الأسبوع .. وأنه يده الرحبة ستقشرنا واحدا واحدا مثل البصل .
يوم جمعة .. يوم يبدأ لينتهي على الزي التقليدي الوطني والحلاقة رفيعة .. بدلات الجمعة البيضاء التي تنتظرنا على الرفوف .. البلغات المدفونة .. وأخيرا عطرالجمعة قبل أن تنفلت الخطوة الأولى إلى رحاب مسجد القبة .
كنا نسيرتارة إلى جانبه وتارة خلفه وقلما نسبقه .. نسيرونحن لاندري إلى أين .. وكانت هذه ( الإلى أين) تشغل عقولنا في ذلك الصباح ... كنا نمشي خلفه وهو أمامنا يردد علينا دون أن يستديرإلى الخلف (احذروا بقع الطمي!!) كان دائما يسبقنا بقامته الفارهة العريضة.. جلبابه الطويل إلى خمص القدمين ، سبحته السوداء ، ودخان السيجارة يتراقص ويرتد إلى الخلف ، خيطا دخان سحري لايستقرعلى شكل ، ونحن أبدا منبهرين بهذه (الأين) التي تسحرنا فيه وتشغلنا ...
انحدرنا عبرالزقاق الضيق .. كنا متيقنين من أنه يرسم لكل واحد منا مشيته بكبرياء دون أن يمشي أمامه.
وصلنا إلى حانوت واطئ ، تتدلى عند بابه خيوط مشغولة من صدفات النهر، كانت تشكل ستارا شفيفا يسمح برؤية من وما بالداخل .
ـــ السلام عليكم ...
ــ أهلا وسهلا ، مرحبا بمولاي ادريس ...
دلفت خلفه .. رائحة غريبة يعبق بها المكان وكان العجوزالشيخ عبدالكامل يعتمرعمامة على شكل شراع قديم .. لحية بيضاء منسدلة ومشذبة بعناية .. بشرة سمراء .. ضمني إليه بقوة وقبل ناصيتي، ثم نهرني أبي فيما يشبه التأنيب :(ألا تقبل يده ألعفريت ؟!)
كان الحانوت يشبه ضريحا متلبسا بكل الألوان الخابية والصورالقديمة والسبحات والكتب النفيسة...
اقتعد والدي كرسيا قصيرا واستند إلى الجدار، بينما سرحت أحدق في هذا الفضاء الغريب .. كان رأسي يلامس من الخلف إطارا لصورحروب قديمة .. إذ تبدوبعض الخيول فقدت قوائمها .. فارس يتأبط ساقه .. شيخ يمتطي أسدا مذعنا .. سيف علي ــ كرم الله وجهه ــ يقطردما .. سرب أحصنة ذوات أجنحة بيضاء .. في الجانب المقابل صوربالأبيض والأسود ، وفي الركن تربض دعامة التصويرعلى ثلاثة قوائم خشبية يعلوها صندوق متزيى بثوب أسود. مازال الشيخ عبدالكامل ينفث الأدخنة العبقة الشهية ويسأل أبي عن أحوال العائلة والعمل وأخبارالتحريرفي الجنوب...
ـــ أجل ادعوا أنهم أحرقوهم في الثكنة !!( قال وهو يوقد عود الكبريت ) كانوا جميعا ببزاتهم الخضراء الداكنة .
ـــ ومن خطط لعملية الإقتحام ؟!
ـــ لقد تسللوا بواسطة حبال مدلاة من سورالقصبة إلى فناء الثكنة .
مسح الشيخ صدره باغتباط قائلا: وماذا بعد ؟
ـــ تفحمت الجثث واندلقت منها سوائل متخثرة ودسمة ..!
ـــ أظن أن تصعيد المقاومة يمكن أن يسرع بالجلاء والثورة قد اندلعت من الشمال إلى تخوم الجنوب من أجل عودة السلطان والعائلة الملكية من المنفى دون قيد أوشرط والإفراج عن كل المعتقلين ...
ـــ لقد قام الإحتلال بمداهمة جميع الأكواخ والنواويل ، وأحرقوها ثم اعتقلوا كل من يدب على الأرض حتى القطط والكلاب لم تسلم من جرافاتهم ...و...و... واندهشوا لاستعداد المجاهدين التلقائي من أجل التضحية ...صمت مولاي ادريس ثم سأل الشيخ عبدالكامل الذي قام ليعد لوازم التصوير .
ـــ والسي سلام ما هي أخباره ؟!
ـــ لقد قضت المحكمة الفرنسية بإعدامه فجرا في جبل (النسر)
ـــ وهل كان وحيدا ؟؟
ــ أجل .. بعد أن رابط جل الفدائيين إلى كهوف ومغارات جبل (النسر).
ما زلت أذكر، قام الشيخ عبدالكامل، أخذ ريشته القديمة .. سمعت بعض خضخضاتها في عمق الوعاء ، سحب من قمطرالمنضدة منديلا أبيض .. مسح زجاج نظارته .. تقدم نحوي ، كان أبي في تلك اللحظة يضبط مؤشرالراديوعلى صوت القاهرة . أقعدني الشيخ على الطابوري العالي وقال :
(الآن صرت رجلا ،.. ضع مرفقك على ركبتك وكفك تحت ذقنك ) وفجأة أمسك بذقني الصغيروبحركة وديعة رفعه قليلا إلى الأعلى وقال :
حسنا .. الآن انظرإلى القمرهنالك .. نعم ، دائما أنظرباتجاه القمرفي اللوحة أمامك .
أخذ ريشته القديمة ، نفضها .. بعد برهة سمعته يقول :( باسم الله وعلى الله توكلنا .. لاتتحرك .. ركزبصرك نحو القمر..القمر.. سترى أنني سأشغل لك أجمل لوحة في زماننا.. وستفخربها أمام أقرانك عندما تكبر .. أليس كذلك يا مولاي ادريس ؟!)
لم يرد أبي ، إذ كان منشغلا بمؤشرالراديوالذي كان لايلتقط غيروشوشات وصفيرا وغنغنات...
أخرج الشيخ عبدالكامل بعض الأوراق الصفراء القديمة  نقعها في الماء وعلقها على حبل بمقابض خشبية. طفق يتمعن حروفها ويتفحصها ...
كانت أجمل لوحة شغلها لي ، وكانت أكبرمما تخيلت ، حتى ظننت أنني خلقت من أجلها وأن الشيخ عبدالكامل لايمكن أن يكون غيربعدي الحقيقي .. جذري البعيد .. هناك في أوصال دوحتنا الوارفة .
استفقت ..ألفيت اللوحة على الجدار.. صورتي هي بعض من كلي بل لم أصدق يوما أنها سوف تصيركلا من بعضي .. بعضي الذي هوفي النهاية عين وريشة الشيخ عبد الكامل التي لا تخطئ ويده الواثقة من ايماءتها إشاراتها .. كنت أرنو إليها وأخمن أنني قد بدأت منها وأنني فيها سوف أنتهي  ...
على الجدارأمام السداري ، كانت تحييني كل صباح فتعاودني الفكرة بأن العالم يمكن أن يتغيركله إلا هذه اللوحة . صرت لاأتخيل هذا البيت من دونها، قرب السارية ، كما أنني كنت متيقنا أنها هي بكل يقين لا تتخيل البيت بدوني...كانت تكلمني تكليما وكانت أمي تلمعها كلما همت بفتح النافذة وهي تغمغم بكلام ملغزكأنه وصيتها الأخيرة لها .
عدت يوما إلى حانوت الشيخ ، فألفيته موصدا ، من بعيد ألفيته موصدا ، ووسط قيامة الشارع شعرت باغتراب . قلت في نفسي ( أيمكن أن يفعلها ، أوربما قد يكون سافرإلى قمرآخرفي سماء أخرى؟!)
دنوت ، كانت على الباب بعض التخاريم وعلى الشباك العالي نسيج عنكبوت.. ساورتني الظنون ..
قرفصت على العتبة وطفقت أنتظرغيرأن الباب لم يفتح .. والشيخ عبدالكامل لم يعد.. ترددت عليه لأيام عديدة وفي كل يوم كنت انحدرفي الزقاق مسكونا بنداءات لوحته ، غيرمكترث بما يمورمن صخب وجلبة من حولي  . . كنت حين أصل وأطرق بابه حانوته الأخضرالمرصع بدبابيس الذهب .. أختلس النظرة عبرالشقوق علني أتملى بطلعته في الداخل ، بيد أنني لم ألمح هنالك في القرارة غيرظلمة مهيبة وجليلة ودعامة رسمه المهجورة . ..
(عن أي سماء رحلت تبحث ياشيخي الجليل ، وكم يكفيني من الزمن كي أعثرعلى طيفك المهيب ، وأحظى بلمسة ريشتك على الرأس والجبين ؟ )
(أيها الشيخ ،أخبرني لماذا نذرتني للوحتك ورحلت ؟!
ذات مساء حملت حافظتي ونزلت إلى النهر . كانت كل المراكب راسية على الرصيف الصخري تتعمد بشلال الشفق القاني ..وكان هناك على الرابية ثلة من الصيادين يلملمون شباكهم ويعدون لوازمهم للإبحار. أسرعت الخطى نحوالأدراج التي تفضي إلى قعرالنهر. نزلوا الواحد تلوالآخر إلى مركب ذي أشرعة عريضة بيضاء وصواري سامقة.. وبدا لي أن هنالك شيخا يتحرك بينهم ، فخمنت أنه الشيخ عبدالكامل . وما إن طفقت أهتف بأسمه حتى كان المركب يمخرالنهرفي صمت وكانت وشوشات كلامهم الهامس تصلني بالكاد .
مرت الأيام كماهي العادة ، كنت أحيانا أتخلف على موعد الدراسة .. أنزل إلى النهر.. أرسم على الدفتر وجوها لشيوخ لاأعرفهم علني أظفربمعجزة جرة قلم عابرة بوجه الشيخ عبدالكامل حتى أرد دينه علي ، بيد أنني لم أفلح في رسم حتى تجعيدة واحد من طلعته البهية...
على الضفة الأخرى كانت هنالك لألأة تعاند ذؤابتها ظلمة المساء ، وبعض أصوات تمتجزبرقرقات المجادف وخريرالنهر .. فجأة وفي لحظة صفوعنت لي فكرة العبورإلى الضفة الأخرى  ...
( آه .. آه .. ما أقساك أيها الشيخ .. ما أقساك أيها النهر.. كيف بي أن أعبرك وأنا لم أبرح بعد عتبتي الأولى ، هكذا تفعلها وترحل مثل آخرملاك في زمننا ، وتتركني لقسوة الغياب ؟! )
شعرت بوخزة برد وبرذاذ أيقظني من تيهاني .. قفزت من فوق الصخرة الملساء .. حملت حافظتي وعدت إلى الدار.
كانت أمي تهيئ العشاء في الركن قرب الدالية .. فجأة سمعت صوت الراديو ينبعث من الغرفة .. فأيقنت أن والدي هنالك يترقب أخبارالثامنة مساءا .. اختلقت كل الأعذارالبلقاء حتى لايوبخني عن تأخري .. لوعلم أبي بنزولي إلى النهرعند الغروب لأنبني ... بيد أنه كان الليلة منشغلا بأخبارالثامنة مساءأحيانا كان الراديورحيما بي ... كان بساط ريح يعبربوالدي سماوات العالم السبع .. يخترق ضباب لندن عبر (البي بي سي ) وجغرافية الشرق العربي الملبدة بسحائب بارود حروب لاتنتهي عبر(صوت القاهرة) ...
بت مسهدا ،.. لم يرحل غراب الأرق عن تعريشة العينين .. غمرتني نوبة إختلفت بين الحمى والرعاش البارد .. وكان صراخ عمتي (وردة) في الخرابة السفلية يصلني كبوق قيامة .. مبهما وغامضا .. محملا بأسرارالأرواح .
ــ ( آه ، لو صمتت (وردة) .. لوطارت غربان الأرق .. لنعمت بوسنة لذيذة وهادئة ..!!.)
استدرت وهمست لأمي ، فقامت ودثرتني بغطاء ثان ، وربتت علي قليلا .. كانت آهات (وردة) مثل غزالة جريحة في الخرابة تصلني مروعة و محملة بأطياف الجن والموت الرهيب ..
(وردة).. عمتي العليلة.. كنا نخشى أن نلج خرابتها في السفلي تحت حاجزخشب الأرابيسك  اتقاء الوقوع في مصيدة الجن الذي يسكنها ...
وكثيرا ما كان والدي يستيقظ في الهزيع الليلي ، فأراه يملؤ قدح الماء ويدخل إلى بيت (وردة).. عطش (وردة) كان جنوبيا .. لافحا .. جافا كامتدادات البيد..
جسد ممدد على تمزقات السريرالخشبي .. بعض آثارخدوش أظافرها على الجدارحين تشتد بها هزات الصرع وتعلوصراخاتها المتحشرجة .. يدخل والدي فيطعمها حساءا دافئا وماءا وأتساءل في حيرة من أمرها كلما خرج والدي من خرابتها سالما ...
( أين تختبئ العفاريت حين يدلف والدي إلى خرابة ( وردة ) ؟!.. ألا تراه جالسا على حافة سريرها الخشبي ؟! ومن أين يمرق الجن إلى تلافيف جسدها العليل ؟! )
كنت أتساءل دائما ، مساءا ..(ما لهذه العفاريت تهاب أبي حين يقتحم مملكتها المرصودة .. هل يدس تميمة واقية لانراها في زاوية ما من جسده تحميه كالدرع من رماح ولعنة العفاريت التي قد تطوح به في لحظة غضب إلى فلوات الثلث الخالي ...)
صريرالباب العريض .. عتمة العتبة .. أدفع الباب إلى الداخل ، ثم أمرق مثل طائروجل .. في عمق الظلمة ، فأخالني على الفناء قد نجوت من عثرة على جسد لامرئي أوشبح مارد يتمدد بالباب ..
من خرابة (وردة) .. مأوى الجنيات ، رأيت والدي يخرج . تمليت في هيأته كثيرا كيما أبصرعلامة نزال أوندبا شيطانيا... بيد أنني أراه مثلما عهدته وألفته دائما .. مثلما كان ومثلما سيبقى في ذاكرتي حتى بعد رحيله ..معاندا.. مقداما لايهاب الموت ...
ويتركني للغزالسؤال : ( ما الذي يحدث هناك في الخرابة ، وكيف يحسم المعركة دائما لصالحه ..؟! ) (وردة) غزالة البراري تخورعلى سريرالوجع .. الفقيه الذي طالع (المحلة) رآى ما لايرى .. اليوم يوم قيامة .. قال : رآى (وردة) تسكب في الليلة المقدسة ماءا قذرا في ملاذ الجن ! وأمرها بين يدي كبيرهم ..الذبيحة  لازمة... صمتت (وردة) وخمد جسدها التائه في بيداء العطش والأوجاع ...
على الجداررأيت النعش منتصبا بقامة الموت .. (وردة) إذن رحلت !!
قلت في نفسي : انتهى زمن الجنيات ... ورغم ذلك لم أجرؤعلى اقتحام الخرابة في السفلي تحت حاجزخشب الأرابيسك...
ذات يوم سمعت نقرا على الباب .. تمليت الرجل طويلا : من يكون هذا القادم المتلفع بعبيرالواحات ...
بوجهه المغموس في حمرة الشمس .. والشفتان المنشدختان ، الكتفان اللتان أثقلتهما عراجين التمر.. الكفان رحبتان ، تخبئان على إهابهما ميثاقا قديما مع المعول والقادوم .. عيناه الملبدتان بغيمة المأتم ... كان المنديل المشجربالطروزالحنائية الجنوبية يزحف على صفحة الوجه القمحي مثل سحابة حبلى بشآبيب الأحزان .. رحال هذا القادم على متن ناقلة (بلقايد)... رأيته يجهش بالبكاء وهو يعانق هذا وذاك ويمجد في ليلة التأبين(وردة).
أدركت أن رحال لم يكن غيرغصن من أغصانا الدوحة الجنوبية ...
لن أنسى جراباته المشغولة من ألياف الدوم ..كان يأتى بها مترعة بعبق الحناء العذراء وسلال تمورمختومة بشمع السعفات ...
وحين كان يتعذرعليه الرحيل كان بعض رسله يطرقون باب الدارالكبيرة محملين بأخباروحكايا عن (الواحة) على متن الناقلة المهترئة الوحيدة وقتئذ .
(وردة) كانت رحما يتضورعلى جمرات العقم .. وكان ( حماد ) زوجها وحشا ضاريا ينهش عمرها بسكاكين الكلام اللاذع ، ويعيرها بحسناوات (الواحة) الولودات ...
ولكم طافت (وردة) وتمسحت بكل حيطان الأضرحة المقدسة ، وذرفت شلالات الدمع الفوارفي كل المواسم بين رحلتي الشتاء والصيف..ونحرت العنزات السوداء على عتبات الأولياء.. وعقدت على أغصان شجرة (للاعيشة) المباركة المعزولة كل أطياف الخرق المنقوعة في السماق المسحور.
كان قفل الجسد عنيدا تأتي رياحه بما لا تشتهيه سفن الليالي .. زمنئذ أطبقت على ( الواحة ) سنوات جذب .. طالما صدحت فيها الحناجرالعطشى بكل الابتهالات والتضرعات المنقوعة في الدموع ...
ولم تكن الساقية الضحلة الوحيدة كافية لانبجاس قطرات الرواء.. وكم كان ( حماد) يتسلق أدراج النخلة العجفاء .. يرنوإلى أحواض الحناء والفصة المسربلة ببروق السراب وعلى الجهة الشمالية كانت تبدوتلال وكثبان الرمل الفاقع مثل دناصيرعملاقة جاثمة ، متربصة ب( الواحة )...
ذبلت آخرالنبتات ، حتى أضلاف الصبارالمرفوعة مثل أكف الضراعة ، ألقت بظلالها الممسوخة ... وكانت أحاديث البوابات عند الظهيرة والقناديل السهرانة على لفح القيظ وصينيات الشاي لا تشد عن كارثة الجفاف... فيما القليل من الأهالي من كان يخمد حمأة الصهد بأمطارلم تسقط إلاّ في سماء الأوهام.. وعن سنوات الجفاف والجوع الأسود الذي أتى على عشرات القبائل في الشمال ...
(حماد) وحده يخرج من جدب ليدخل في جدب : (هذه الجروة ! متى أتخلص من نباحها المسعور.. دبيبها المقرف على الأرض..) .
ذات ليلة عزم على الهجرة إلى (الغرب) .. ولم يكن (الغرب) غيرالوجهة الشمالية المثخنة بالسحائب البحرية حيث يتمدد عقد المدن الراقية التي ترتع في مروج لاتنضب ، وتنهل من خيرات الحضارة ... أينما ترسوالناقلة الأسبوعية كان (حماد) يلاحقها وهومتله ليستفسرالعون عن أحوال (الغرب).. خيره الوافر  متاجره ومارشياته العصرية .. غوانيه ذوات البشرات المصقولة كقطع اللجين الأصيلة ... ثم ينساب الكلام في قرارته ناعما .. أحلاما تعرج ب(حماد) إلى أبهاء الفردوس ..
وكان لايستفيق من وهمه إلا على غباركثيف تتركه الناقلة خلفها ، وطريقا محفوفا بالصباروشجيرات الشيح ، يرتفع شيئا فشيئا إلى أن يخترق حافة التل الكستنائي الموحش...
(حماد) وحده يرحل كل سبت إلى (الغرب) على جناح حديث العون المثخن برائحة (المازوت) ولكم لمح ل(وردة) بسياط الطلاق :( هنالك ــ مشيرا إلى جهة (الغرب) ــ هنالك سوف أرجع يوما مصطحبا (لالاّك) وسوف ترينني كأميرشرقي .. يكفي فقط أن أن تملأ جيوبي بالنقود وأرتدي الكوستيم الأسود والقميص الأبيض المتختمة بالفراشة السوداء وألمع الحذاء مثل الأوروبيين...
أما (وردة) فقد كانت تلوذ بالصمت وتعقد الألم بنطاقها الأحمر.. ترفع عينيها إلى سمائها المخصوصة .. و في مرات عديدة كانت تغرق في صرعات اهتزازواصطخاب رجات فيتكورالزبد في زاوية الشفة ويفسد الدمع مجازات المرود المنقوع في الكحل المنير.. ويرتفع وترالشكوى حتى تسمعه الجارات وقد ينبلج الباب عن إحداهن على عجل متلفعة في خمارها الأسود وبين يديها مزيدا من جرعات أدواء الصبروخليطا من عصارة الأعشاب التي قد تحقن الرحم بحرارة التورم المشتهى ...
وسماء (الواحة) لم تمطر، وطريق(الغرب) موصدة بمتاريس وحراس ببنادق المكرالمعبأة برصاصات عيون زرق . 
قال (حماد) في نفسه مشيرا إلى الطريق أمامه :هي ذات الطريق التي عبرخلاءاتها وأحراشها أجدادي منذ أوئل القرن .. وشيدوا في (الغرب) رياضات هي في الأصل طبعة ممسوخة للقصورعندنا في الواحة ...
ذات ليلة تسللت (وردة) من سريرالمهانة قبل أن يشرق على التل الرملي أول شعاع الفضيحة .. وشقت الطريق المتربة المنزوية إلى مدشر(البير) حيث هنالك الملجؤالآمن عند الشريفة (ايزة).
استفاق (حماد) على صقيع غريب .. ضغط على زرمصباح يدوي ، فبدا له البيت لأول مرة خاليا وموحشا ...ولأول مرة جعل يدرع كل الأركان وهويهسهس باسمها ! ولأول مرة أحس بالخواء وبفزع يحتوي المكان !..ولأول مرة أيضا أحس أنه ماكان ليستوحش نفسه لو كانت (وردة) راقدة يرفل السرير في أريج الحناء في ضفيرتها !.. ولأول مرة أخيرا برقت في فكره ومضات البروق الأولى ، فجأة تلفع بجوخه الرمادي وراح يفتش عنها في أرجاء ( الواحة) ..
كان يحدق في العتمة ، ويسدد شعاع قنديله في كل الخبايا ، ثم جعل يطرق كل الأبواب كالمجنون ويهتف باسمها تحت الشرفات والنوافذ .. ثم اندفع يخورمثل ثورهائج منفلت للتومن دهليز... فبدت له عتمة العالم مثل دفة هائلة أغلقت في عينيه بفظاظة وسرعة . استند سورا حجريا مشرفا على الحافة وطفق يلتقط أنفاسه كأنما يلتقط أشياء ثمينة انفرطت فجأة في الظلام ، وأخيرا راح  يمني النفس بالوثوق المخادع لرجوع (وردة)...
قالت (ايزة) ل(وردة) بغيظ منفوث :لا تكترثي بالأمركثيرا، لدي كل ما تحتاجينه وسوف أدبرلك أمرالسفر إلى (الغرب) خلسة .. صدقيني ، هذه ستكون هي الأخيرة ...
وردت (وردة):( كيف لي أن أقطع تلك القفارومن السيدة التي سوف ت...) وقاطعتها (ايزة) وهي تفتش في صندوقها القديم :( اصغي إلي جيدا .. سوف تتنكرين في جلباب وسلهام زوجي رحمه الله وتعتمرين بعمامته الصفراء وتستقلين الناقلة خفية .
ــ لكن قد يكشف الكريسون (العون) تنكري وتكون الفضيحة فضائح و...
ــ الأمر بسيط جدا ..جدا .. انفحيه بعض الدراهم وسوف يبلع لسانه ويدبرلك مقعدا مواريا عن عيون الوشاة  ( إنه يرى النقود ولا يرى الحافة !! )
وبدت (وردة) في نورالشمعة بملامح وقسمات ممهورة بالوجل والتردد وهام ذهنها في تبعات شائكة قد تلحق بها فضائح أكثرمما كابدته مع زوجها (حماد) . بيد أن (ايزة) عالجتها وعضدتها بجواب لاتحبك بلاغته سوى العجائزالمكيدات الداهيات...
كان عليها أن تمكث أربعة أيام إلى أن يحين يوم قدوم الناقلة وهويوم السوق الأسبوعي وشعرت بعد حين أن هول الفضيحة قد خفت وطأته وجعلت تهتم بأناقتها وتتعجل موعد الرحيل .
بدأت جلبة السوق ترتفع شيئا فشيئا مع انسياب النهار... إبل ، خيول ، ماعز ، خرفان (الدمان) بعض بقرات ضامرات،حميروبغال محملة بسلال وأكياس ومرضى وشيوخ واهنين وأطفال مدللين مزهوين بضفائر السعد ونساء متلفعات في حوائك سوداء ، لاتبدومنهن عدا عيونهن التي خبا بريقها وطفح عمشها الأصفربسبب رياح الشرقي الحامية المحملة بذرات الرمل اللاذغ وأسراب الناموس والذباب العنيد وكل الحشرات الطائرة... في يوم السوق الأسبوعي كنت لا تسمع سوى وقع صفيحات الحوافرعلى الطريق المتربة .. تثير الغبارفتزيد الجواختناقا وكحات حارة وجافة...
حين خلا المعبرالضيق ، انسلت (وردة) . كانت الناقلة المهترئة رابضة تحت افريزالسوق الظليل لم يحن بعد موعد الإنطلاق وفي غالب الأحوال كان السائق لايعود إلا حين يروق مزاجه بعشرات كؤوس الشاي الحارالمنعنع هنا وهناك تحت الخيام وفي الحوانيت الضيقة الواطئة وأينما خطا خطوة يلغط البدوبلقبه (بلقايد),وكانت حلقات الطواجين تحت الخيام المخرومة تفسح له صدرالمكان وتقدم له ألذ وأطيب وأنضج شرائح اللحم ... وكان لا يشغل المحرك إلاّ بعد أن يكون قد طاف بكل أرجاء السوق وخبربالشادة والفادة ورد على كل الأسئلة عن أحوال الأحباب في (الغرب) وعن أمطاره الوافرة وخيراته ومصانعه وإداراته وأحيائه العشوائية المفتوحة للنازحين والهاربين من شظف الجنوب وحرب الشمال...
ألفت (وردة) العون مقتعدا كرسيا قصيرا، مسندا ظهره على العجلة الأمامية ، فاسحا أزرارقميصه فبدت حبات العرق بين شعيرات زغب صدره الكث متلألأة ،.. وكان بين الحين والآخرينفث دخان سيجارته بضيق وتأفف كأنما يدخن فقط لتمريرالوقت الثقيل والصهد الضاغط ...
أحس باهتزازخفيف .. وضع كأس الشاي أرضا والتفت إلى ناحية الباب .. كانت (وردة) قد وضعت القدم الأولى على الدرج ودفعت بالرزمة داخل الناقلة..
ولما لم يحن بعد موعد الإياب ولما كان هذا القادم مبكرا أكثرمن العادة كل أسبوع ، فقد ارتاب في أمره وبادره بالسؤال :( ايه..ايه ، إلى أين ، ألا ترى أن الناقلة في وقت راحة ؟! ) وتغافلت (وردة) عن الجواب وألقت بجسدها المتعب في المقاعد الخلفية وضمت الرزمة إلى بطنها فوق ركبتيها وخفضت رأسها وسوت العمامة على وجهها بشكل هوأقرب للقناع منه للثام . بيد أن العون لاحقها للتووانتصب متراخيا فوق رأسها :( يبدولي أنك لم تسمعني فهل أنت إنسان أخرس ، اليس كذلك ؟!) بيد أن (وردة) ظلت خافضة رأسها والرد يعتمل وينضغط في أعماقها مثل بالون يوشك على الإنفجار... كانت أنفاسها تستعربين جحيم الموقف وقيظ الظهيرة وشرارة عيون العون .. ولما رأت أنه لابد من تكشفها والبوح واعترافها .. فجأة انفجرت حدقتاها بالدمع واندفع الكلام دفعة واحدة وهي تفتش في تلافيف الرزمة عن كموسة النقود لترشي العون ببعض الدراهم متوسلة إليه أن يكتم السر.
تظاهرت بالخرس وتناومت ما استطاعت.. وغرقت الناقلة في الظلام والإهتزازات ... كانت الناقلة تصرمع كل رجة حتى ليخال الركاب أن هيكلها سينشطرإلى نصفين .. وهناك في الأفق الدامس كانت تتراقص ذؤابات الخيام والمداشرالبعيدة و بين الفينة وأخرى على نورالناقلة الخافت تنقشع أضلاف الصبارمثل تشكلات آدمية غرائبية برؤوس عديدة ... ولم تشعر(وردة) إلا وقد غفت فجأة على صريرالهيكل وهديرالمحرك الذي يتغيرشخيره كلما تغيرت سطيحة الطريق ...
اختفت إذن (وردة)!!
نسج أهالي مدشر( البير)  روايات بين التشفي والشفقة.. (حماد) وحده كان يقتعد صعيدا صخريا على مشارف المسالك والشوابك الضيقة يترصد الأطياف القادمة.. وكثيرا ما كان يخمن كل قادم من بعيد أنه (وردة) :(لابد أنها سوف تعود.. لن تقدرأن على الذهاب بعيدا ...) كان يهمس لنفسه وتنفخ ريح الشوم الشرقية في دراعته فيبدومثل منطاد يخفق دائما في التحليق.
اختفت إذن (وردة)
مضت أيام  .. ظلت العمة (ايزة) تتنصت لأحاديث السقاءات وكلام المسامرات حول موائد الشاي و(الكارطة) .ومثلما تنفخ الريح في شرارة بغابة يابسة فقد شبت إشاعة مقتل (وردة) بضربة قادوم على يد زوجها (حماد) وكثرالقيل والقال : فمن قائل أنه أقبرها في حوش بالبيت ، ومن قائل أنه دس سما في كأسها وألقى بها في بئرجافة بداخل البيت .. ومن قائل أن جثتها ما تزال هامدة في القرارة ولذلك جعلت تفوح منها رائحة النتانة وأنه لولاوجود رائحة جيفة لما حامت وتخاتلت بعض الذئاب والكلاب ليلا بالمكان منذ أيام ...
أما (حماد) فقد فطن لليد الخفية التي ضغطت على الزناد صوب رأسه وبهذه السرعة ...إنه ليس إلا العماري الذي يتنازع معه حول أحقية ملكية سبع نخلات على حدود جنانيهما ... وقد من عليه الزمن بفرصة العمر ليعجل بايقاع غريمه في دهاليزالحبس ... ولم تكن القضية ذات أهمية بهذه الدرجة من الإنتقام ، إذ أن القضية في الأصل إصرارعلى موقفين متنافرين ، وإصرارقبل كل شيء على ربح المعركة مهما كلفهما الأمرمعا من مال وسنين وجهد وتطواف بين محاكم البلد ... والقضية أخيرا ثبات على رأي ( طارت معزة)...
ومن طرائف أهالي الجنوب أن المداشرالبعيدة كانت تلقب المنطقة (الواحة) تفكها ب بواحة (طارت معزة) والحكاية أن شخصين رأيا يوما ذات يوم غرابا على صخرة ، فاردا جناحيه فظن أحدهما أنه عنزة سوداء ، ورغم أن رفيقه نفى أن تكون هنالك عنزة ولإقناعه رمى الغراب بحجروطارفعلا، فإن الرجل الثاني أصرعلى أنه عنزة طارت وانتهى الأمر... ومنذئذ اختلف رأي الأهالي بين منتصرلهذا الرأي وذاك حتى صارلكل واحد منهم عنزته التي تطيروعنزته التي لاتطير..وإذن فإن للعماري أيضا عنزته التي طارت وأنكرها حماد ، وقد أوشكا ذات يوم أن يحسما النازلة باقتسام النخلات وبيع غلة السابعة بالتناوب كل عام ، بيد أن العنزة طارت مرة أخرى حول من سيسبق لجني العراجين في ذات السنة ، ولم يكن احتكامهما لشيخ الواحة بحضورالشرفاء والأعيان والوجهاء والعدل الموثق وفقيه المسجد السي (الصادقي) وتتويج كل هذه المصالحات بنحرعنزة في وليمة عشاء كل هذا لم يكن كافيا لفض النزاع بالتراضي حيث ظلت (العنزة ) طائرة !! وظل كل منهما يتحين الوقت للإيقاع بغريمه ، ولعل الدوربات على( حماد) هذه المرة .. فرائحة الجيفة تزكم الأنوف والجثة قد تكون بدأت في التفسخ ، واختفاء (وردة) منذ تسعة أيام قد شحذ ألسنة الجارات في الغدو والرواح ، وعلى جنب البئرأيضا وقد كن على هاوية العطالة وفي أحسن الأحوال اجترارما لفظه أزواجهن مما حصدوه من أخباربعد فض مبارزات (الضامة) المشحونة بألغازالتنابزوالتنبار.
ضاقت الواحة ب(حماد) ، فأينما توجه تقصفه النظرات الشزراء وهسهسات النميمة والهمزواللمزوكانت العمة (ايزة) تتعقب زحف العاصفة على بيته وتترقب لحظة انهيارالسقف على أم رأسه.. إذ هي لن تنسى ما حيت أنه كان بحق وحشا لا يكترث بأي شيء وأنه في حقيقة  الأمركان عاقرا خلافا لما شاع بين الأهالي عن عقم (وردة) .. لكن من يصدق العمة ( ايزة) ؟ فقد كانت ذات فراسة حادة وكم من مرة كشفت على بطن (وردة) وغرست أصابعها في عمق (البطن الصغيرة) وبعد جس وفحص سطحي تقول بنبرة وثوق زائد وللمرة الألف : سوف يصرخ مولودك يوما ما بين يدي هاته وسألملمه في القماط الأبيض .. رحماك يارب ... لو.. لو.. ت... ، لكن لاتتسرعي فباب السماء دائما مفتوح .
ذات فجر سمع ارتطام قوي .. كان حماد قد سحب الباب خلسة وتعثرفي حجركبير كان بمثابة درج لعتبة طينية ، فارتطم الباب من تلقاء نفسه بقوة حيث كان عليه أن يرافق حركته بيده إلى أن يبلغ الرتاج برفق ...
انحدرعبرالزقاق الطيني الضيق وكان يحدس أن ارتطام الباب خلفه سيكون سببا كافيا بأن يزرع كل الحيطان المجاورة عيونا وآذانا مترصدة . فجأة تدلى رأس( منانة) من الكوة الجانبية ثم عادت ودلفت إلى غرفة النوم وبايماءة من يدها أدرك زوجها أن الأمريتعلق بخروج (حماد) الذي لم يعتد أن يخرج في مثل هذا الوقت الباكروكان وهويهرول بخطى متوترة يسب ويلعن الأبواب وتمنى لوكانت كل بيوت الأرض بدون أبواب وظن أن كل العالم قد تواطأ ضده بما في ذلك باب بيته ... بيد أنه أقسم بأغلظ الأيمان وهويلتقط حجرا ثم يرمي به طابورا من رؤوس الصبارأن (وردة) سوف تعود بالشرع وسيكون له معها شأن آخرومع العماري والساحرة الشمطاء (ايزة) .
رست الناقلة بتوأدة وشخيرمتهالك في ساحة متربة يحفها جهة الجنوب سوربه بابين عريضين .. وكان  يستلقي أسفل السوربعض المسافرين مستندين إلى حقائبهم ونعالهم وكان بعض الشحادين وأحد المجانين يتبول على حافة السوروقد عكس ضوء الناقلة رشيشه بوله الفائر.. وفي الركن هنالك كان طفل مقرفصا يتغوط وأمه منتصبة أمامه وضوء الناقلة الباهت كان كافيا كي يخلع عن كائنات هذه الساحة الليليين ستائرعوراتهم ما ظهرمنها وما بطن ...
(وردة) وحيدة .. وجلة .. تقاوم الوسن الثقيل .. دلفت الناقلة داخل مرآب دائري واسع ومظلم مثل كهف عميق .. وسرعان ما اندلعت رائحة (المازوت) بقوة وتسرب دخان أزرق عبر كل المنافذ والشقوق والثقوب وبدا نافذا أكثرمن تحت الدواسات الثلاث ، وبدا أيضا أن (بلقايد) لم يعبأ بنوبات السعال الحادة التي فجرها الركاب دفعة واحدة ... أما (وردة) فلم تتأثربهذه القنبلة الغازية فقد كانت متقنعة بعمامتها الصفراء . فجأة صاح العون بصوت متهدج ومبحوح مضبوط على مقام الأرق والتعب ... (على سلامتكم ... )
خرجت (وردة) تتعثرفي تلابيب السلهام .. بدا ليل ساحة ( لهديم) غريبا .. ليل محروس بأسوارتكللها نياشين فوانيس الحوانيت وغمزات المصابيح في النوافذ الضيقة تعبق بأنفاس الأريج الليلكي ونكهة أباريق القهوة التركية النفاذة التي تحملها نسائم الغبش عبردروب حومة (قبة السوق) الأنيسة ... ليل ( لهديم ) ليل الغرباء .. اقتعدت (وردة) أمام المرآب في انتظارأن ينبلج الفجرعن أول يوم بعاصمة (الغرب)...
اقتعدت رزمتها .. كان بدر(لهديم) يغرق رويدا رويدا في محيط الظلمات ثم في لحظة ألق باذخ تربع على عرش السور... وسمعت سقسة سنونو انفلتت من ثقب ما بالسور، وتذكرت أسوار(الواحة) وليلها الملغزالمغمور برعب الفراغ المطلق ونباح الكلاب وفحيح اللأفاعي القرطيطات وطنين اليعاسيب وصفيررياح الشوم ووعيد الرعود وسياط البروق الخافة وجنازات النخلات الملفوفة في أكفان جائحة (البيوض) و(حماد) الوحش يعوي في أرجاء الدار(سوف ترين هنالك في الغرب سأعود يوما ما قادما (بلالاك) يكفي فقط أن ترن النقود في جيبي وأرتدي (الكوستيم) الأسود وألمع الحذاء مثل الفرنسيين...) ورحال ابن العمة (ايزة) ثعلب الكثبان المتقلبة يخلع نعله عند العتبة بعد أن يكون قد طرق الباب بحصاة ينادي على (وردة) كي يودعها سرا من أمه (ايزة )، وأسراره في غالب الأحوال وقائع يلفقها مقابل قطع رغيف ساخنة محشوة بلمسة السمن الحارثم يمرق إلى المنحدركي يواصل معارك الركض مع الأطفال على صهوات القصب وملاحقة الريح ...
رحال كان فتى لايكل وتعرف (وردة) أنه مغامرلاتستقرضفيرته اليمنى لحظة ولايدري متى وكيف يلجم روحه المغامرة ، وأيقنت (وردة) أنه لامحالة سيفاجؤها يوما بزيارته .. لابد أنه سيكبروسيتذكرها كلما مرعلى باب زقاق (المدوز)...كان يناديها ماما (وريدة) وكانت هي تناديه (حميميد) ولكم ضمته بقوة إلى صدرها وزرعت حلمتها في ثغره وكانت حلمتها سمراء كحبة حمص مقلية يتلهى بها ريثما ينام وكان يعلم بالعادة أن ثديها يابس وكانت هي من جانبها تتلذذ بدغدغات تلمضه التي تذكي فيها شهوة الأمومة ، بيد أن الزمان كان زمان جدب وقحط ، والسماء لم تزخ منذ سبع سنوات والأهالي يطاردون غمائم لاوقت لديها للمساومات ... وحماد مايزال يحرث في أرض يباب...
التحفت (وردة) حائكها الأسود ، لفته حول خصرها بنطاق مجدول أخضر .. أحست بعطش لافح فدلفت إلى مقهى عتيق على يمين المرآب وسمعت شخصان يتحدثان عن (الواحة) فعاودها الحنين وقلبها كاد ينفلت من شدة الخفقان .. غيرأنها ما فتئت أن كرعت الكأس خيطا واحدا ولما حدس النادل رغبتها في كأس ثانية ملأ قدحا طينيا مضمخا ببصمات القطران ووضعه أمامها على الكونتوارالخشبي ، وشربت ما استطاعت أن تطفئ به غلتها وكان شعاع الشمس وقتئذ قد اخترق شباك المقهى خلسة وضرب بنوره على الرفوف الموشحة بغلالة الأدخنة والغبار، اثرئذ فكرت (وردة) أن الوقت قد حان كي تخرج للبحث عن منزل المولى ادريس ...
رحلت (وردة) إذن..!
رحلت في يوم ما .. يوما كان منقوشا على مرمرالأحزان.. بين حيطان الخرابة الآيلة للسقوط .. سنوات للأنين ونوبات العصاب الحادة .. كنت أتوهم حيوانا خرافيا ، شرسا يفترس جسدها العليل ... لحظة أطللت من نافذة المراح ألفيت وجهها مثل ليمونة دهستها عجلة طائشة ، وكدت أجزم أن للتنين أيادي تشوه قسمات  الله في وجهها الأنوس ... ورحال كبروكبربسرعة ، أتى متأخرا بعد أعوام .. عانق أبي بقوة وحرارة وذرف الدموع على كتفه مثل طفل ثم انهارتماما حتى خلت أنه لبى نداءها ولحق بها إلى العالم الآخر...
كنت أرنوإلى المأتم من على ممشى الطابق العلوي وأسوي بصري بين التواءات حاجزخشب الأرابيسك .. النساء تدلفن إلى غرفة المغسل واحدة تلوى الأخرى .. ثم فجأة تدوي الصيحة المنقوعة في الدمع والنواح والعناقات الحزينة... ولكم سمعت كلاما كثيرا ليلتئذ عن (حماد) الذي كانت قد صدرت في حقه مذكرة بحث من طرف دائرة الدرك في (الواحة ) ، وسمعت رحال يهمس لخالي أن ثلاثة من رجال الدرك مدججين بالمسدسات المعبأة بالرصاص الحي ، اقتحموا بيت (حماد) وتتبعوا مصدرالرائحة النتنة وعثروا بالفعل على جثة، إذ لم يكن أمرالرائحة تلك وهما أو ضربا من تصعيد النازلة وإذكاء نارالإنتقام بل حدثا واقعيا بعد أن وقفوا في غرفة مهجورة في الطابق العلوي على جثة امرأة ، جثة كانت نصف عارية ، مستلقية على حصير الحنبل المزركش . وبعد أن رسمت المشاهد التوثيقية من كل زاوية ، أزيحت الجثة إلى المعبرالخشبي الذي يفضي إلى الأدراج السلفى ثم إلى البهوالسفلي ، فتبين من خلال المعاينات الأولى أن سبب الوفاة قد يتعلق بعملية خنق ،غيرأن النقيب مراد الراجي أكد أن العنق لا يحمل آثارعنف وفي تلك اللحظة تقدم عون السلطة وأزاح من الركن المعتم كيسين من التمروسحب إلى الخلف قلة مملوءة شعيرا وثلاثة أكياس حناء وكانت المفاجأة حين عثرعلى جحر، فلوح للنقيب مراد الراجي وقال فيما يشبه الصراخ : جحر ..جحر!! ثم أردف أجل جحر فأرة ــ ايوا ــ أوومن بعد أشنوالعمل ؟!
ــ لا ، لا ألسي مراد جحرأفعى قرطيطة ونحن البدوأدرى بمآوي كل مخلوقات الله الطائرة والزاحفة والعاشبة واللاحمة ... ولو كان جحرفأرة لكانت فوهته أوسع قليلا حتى تتمكن من المروق بخفة ويسرفي حالة المطاردة ثم ياسيدي ليس بالمكان ما يغري الفئران على الإستيطان...
فقاطعه النقيب ثم انحنى قليلا ليتأكد من صحة كلام العون وأوقدعود كبريت وضم كفيه على شكل مصباح يدوي وسدد نوره إلى فوهة الجحروبعد برهة استوى واقفا ومن خلال ملامح وجهه بدا أن الأمرتافه جدا  نادى العون على شخص آخروقال للنقيب :هذا هو( الزربان) الذي كنت قد تحدثت معك في شأن إتقانه لكنس آبارالقصر... إنه يعلم ما تسروما تعلن الجحور .. وكان (الزربان) في مقدمة الفضوليين عند عتبة الغرفة .. وهوشخص أقرب إلى المتهورمنه إلى المقدام العاقل ... كان لايخلومكان في ( الواحة ) من دون أن يبصم فيه بحافريه الحافيتين وأينما حللت تجده كما لوأنه ريح توجد في كل أرض الله ... وقد كان فيما مضى على وشك أن يعين عون سلطة لروحه المذعانة وقابليته على السمع والطاعة لعلية الأهالي وحرافيشهم ،غيرأن تلعثمه المشوب بخبل طفيف جعلت القايد يعدل عن قراره تحت ضغط غضب
الأهالي ...
وما إن أمره النقيب حتى انبطح بسرعة على بطنه وأولج دراعه كاملا في جوف الجحرمن دون تردد أو خوف غيرأن النقيب انزعج وركله بمقدمة جزمته قائلا : (أتكعد) أتريد أن تلحق بالجثة الأولى وتغرق بنا سفينة البحث والتحري؟! ونهض( الزربان) وأومأ له المقدم بغمزة (معيقة) وحركة طفيفة بيده ، فخرج (الزربان) إلى المعبرالخشبي ثم نادى عليه ثانية ودلف خافضا رأسه وهمس في أذنه ، فنزل (الزربان) الأدراج قفزا وسمعوا فجأة حنحنة أسفل الأدراج وكان (العماري) ببطنه المتدلي صاعدا ينفث أنفاسه مثل ثورنافروتوقف بالدرج الرابع في المستوى الذي يجعله يرى كل شئ ولا يرى منه الآخرون سوى رأسه وقال دون استأذان :
(ألشاف) يعني نقيب الدرك ــ منذ أكثرمن شهروهذه الرائحة النتنة تزكمنا ولكم نبهت الأهالي إلى أن الأمرلايتعلق بجيفة حيوان خصوصا أننا أدرى بشعاب ( الواحة ) وما ينكمن في مخابئها من أسرار .. واختفاء (وردة) منذ مدة قد أجج نيران الشك حول مقتلها وكنا لا نشك في ذلك ــ والتفت إلى العون وأردف ــ وها قد صدقت رؤيتي أليس كذلك ياعباد الله !!؟...
ثم ارتقى درجا آخروبدا كما لوأنه سيتوقف ثانية ، بيد أنه ارتقى الدرج الموالي فلاحت له الجثة كاملة ، فخفض رأسه في خجل وانبهاربالغين وكأنه استفاق فجأة من كابوس وكان إحساسه في العمق مشحونا باغتباط وخيبة عارمتين متلازمتين ، فغريمه (حماد) كان يلعب على حبل بين الماء وبين الناروهو كان من دون شك سيقع في المصيدة يوما ما وهاهوقد وقع فيها أخيرا، وطفق يتملى ويتفرس وجه الضحية الهامدة واحتدت أمارات الإستغراب على محياه وقال : أين (وردة) باسم الله الرحمان الرحيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ؟! وحدق ثانية بإمعان في وجه الضحية الملقاة على الأرض وأشارإلى الوشمين على الجبهة بين الحاجبين الدقيقين تحديدا وتحت الذفن والتفت إلى النقيب وقال :( ألشاف .. ألشاف) هذا الوشم وبهذه (الزواقة ) مالوف لدى أهالي قبيلة ( آيت أدرار) هنالك على الحدود بين ( إكلي ) الشرقية وواحتنا والأهالي عندنا كما يعلم الجميع يحرمون الوشم أبا عن جد طبقا لتعاليمنا الدينية ، هذه امرأة غريبة عنا ــ وخفض بصره استحياءا وتمتم ــ (هاذي نعم أسيدي امرة حاشاك عا ...آ..آ..!)
رنا إليه النقيب بامتعاض وتقززوكان على دراية تامة بقضية (طارت معزة) بينه وبين حماد ولذلك لم يحفل بكلامه حيث أن إفادة العدوضد العدولاتجوز...
أخرج النقيب علبة سجائر(لمارلبورو) من جيب بزته الرمادية ، أخذ سيجارة وعرض على زميله أخرى .. أولعا معا بعود كبريت واحد.. مجا نفساعميقا ونفثاه مثنى في انسجام .. نظرأحدهما للآخروبدا أنهما على رأي واحد وفتح النقيب ملفا أسود وسجل بخط فرنسي ركيك ، لولبي .. ثم أغلق الملف بسرعة وقال لزميله : من الأجدى أن نعاين الضحية مرة ثانية حتى لانترك ثغرة في ملفنا فيما سياتي من التحقيق!)
ورد زميله بنبرة استخفاف :
ــ وما جدوى ذلك .. الذي قد كان .. كان ... ولاتنسى أن مسافة العودة إلى المركزفي (قصرالسوق) شاقة وطويلة .
قال النقيب وهو يفتل خيط جزمته العالية : 
ــ قد يساعدنا على تعميق التحري عن إضافات ندعم بها المحضر...
  أردف زميله :
ــ طبعا، لكن بهذا قد نتطاول على اختصاصات الطبيب الشرعي ... أرى أن مهمتنا قد انتهت بالوقوف على جثة الضحية والموقع وتحريرالمحضر بتجرد تام ...
ثم نادى على المقدم ووبعض الشهود وأمرهم أن يوقعوا أسفل الملف . ففعلوا .. قال له الدركي للمقدم ساخرا : لقد مللت يالمقدم من (حشرة الأربعة والأربعين ) هاته ــ يعني توقيع المقدم ... أولم تفكرفي إبتكارتوقيع أجمل من هذه الحشرة ؟!
ونادى على شخصين آخرين فاندفع (العماري) غيرأن المقدم نهره ، فتراجع حسيرا ، مكسوف الطلعة ونادى مكانه على شخص آخر، شخصا كان أعشى .. عيناه ضيقتان .. اندلق من زاويتيهما شحم المرهم الرخيص وكان على ما يبدويعاني من عدوى (الرمد الحبيبي).. كان المسكين يسحب خطواته بتثاقل كأنما يتأكد من سلامة موطئه ... لطخ الدركي إبهام الرجل الأعشى بحبر(الخاتم) الأحمروبصم أسفل المحضر ..
اثرئذ هم الدركيان بالخروج فتدافع الأهالي على الأدراج وتعثربعضهم في أقدام البعض وخرجوا إلى زقاق (المدوز) ... بعد تشميع البيت أمرالنقيب مراد الراجي بحراسة البيت إلى حين حضورالطبيب الشرعي من المستشفى المركزي بالمدينة في اليوم الموالي ...
زعقت عجلتا سيارة (اللاوندروفر) الخلفيتان وأثارتا زوبعة من الغباروالحصى وانطلقت في المسلك المترب ..تهتزوتتمايل وتتلافى المطبات ونتوءات الطوب ..والأهالي يلاحقونها بنظراتهم و(اللاندروفر) تتقافزوتنط .. وفي لحظة إختفت عند المنحدرثم ظهرت ثانية على كاهل التل إلى أن غابت في الأفق البعيد بين جنائن  النخل المهجورالذي أتى عليه مرض (البيوض) ... كانت الشمس تنقع وقتئذ قدميها في موجات الكثبان الحامية وتسدد أقواس نبالها الحمراء باتجاه أسوار(الواحة)... قال العماري وهو يهرش أذنه اليمنى بعود الدومة :
ـــ آلمقدم هذه أكبرالكبائر !! ماذا ستقول عنا المداشروالقصوروالدواويرفي الأسواق ولمات الجنائزوالأعراس والغدووالرواح إلى السوق ... ليس أفضع من فضائح الفساد .. اللهم لطفك يارب .. ألم أقل لكم أن (حماد) كان يتظاهربالحزن والكمد وحتى الخباط على اختفاء (وردة) وأن رائحة الجيفة تقوى عندما نعبرزقاق (المدوز) ثم ــ امممم ــ ثم لماذا لم تخبرالدرك عن اختفاء (وردة) .. ألم تشغلك (وردة) مثلنا .. أين المسكينة (وردة) .؟! وكيف أتى هذا الوغد الفاسق بهذه الجيفة الادمية لكي تفرخ أوغادا لقطاء مثله وتدنس دوحة واحتنا...
صمت المقدم برهة ثم أجاب بهدوء ووثوق طافح بوقاره المعهود :
ــ اسمع أولدي ، كان من الأليق ألاأجيبك ، لكن الرد عليك بات واجبا علي بحضورالجماعة ثم إنك قد ألبستني جلابة أضيق من قامتي وقد تشرد يا العماري في (طارت معزة) أخرى مع المخزن والمخزن واعرالله ينجينا ونجيك منو... اسمع إن اختفاء (وردة) لايعني بالدرجة الأولى سوى (حماد) ومادام أن المعني بالأمرــ بعلها ــ لم يبلغ الدرك في دائرة (الواحة) فهذا أمريهمه وحده لاغيره ...
فقاطعه (العماري) ملتفتا إلى الجماعة : أيها السادة كلنا معنيون باختفائها فهي ورقة من دوحتنا وكيف نسكت عن هذا المصاب الجلل .. وتابع المقدم كلامه ، أما فيما يخص المرأة الضحية فإن المخزن دارشغلوثم لابد أن تفضي التحريات إلى العثورعلى (وردة) والجاني (حماد)  وتقديم  كل منهما للعدالة
كنت تائها في دوامة المأتم .. صمت الشاهدة ودلوالماء الساخن ، ماء السماوات المترقرق على تجاعيد العتبة ينساب مغمورا بنفحة تراب المقابر...
أنفاس مجللة بعطرالقيامة ...
 كمياء مشغولة من نسغ دوحة الخلود ...
(وردة) رحلت إذن !!
(وردة) تعض على ندفة غمامة عمياء أخطأت دربها إلى أكمات عطشى...
باب مشرع على المطلق الأزرق.. (وردة) بين الأرض والسماء مرفوعة بسواعد تشمرعلى ايماءات الوداع...
هي ذي خرابتها ... صندوقها الخشبي المطرزالمشروخ .. أعشاب للرقاد وأعشاب أخرى لتأجيل الآلام ..
قدح الماء المقطرن .. إناء حسائها الأخير .. عباءتها الخضراء .. قلادة النقرة بوصلة لجنائن العراجين وساعتها عقربان أنهكهما أرق السنين...
خدوش أوجاعها على الجدار ..
متاعها لغة تستعيربلاغتها من كتاب الوصايا الحكيمة ...
دلفت الخرابة وحدي متوجسا .. السلهام والعمامة ..علامتان لحكاية معلقة على مسمارينغرزفي خصر الطريق ...
عاد رحال وأبي وزمرة من المشيعين .. كان السفلي غاصا بالنساء ورجال الحومة يصعدون إلى الطابق العلوي .. الليلة تنعتق هلاميات البخورمن أصفاد الشياطين .. وتنفلت من شفاه اللحي التي تشرق بماء الورد تراتيل محفوفة بوقارالأنبياء...
أخي عمريطوف بغلاي الماء الدافئ  .. وعمي يضخ ماء الزهرمن المرشة الفضية .. والفوقي يعبق بأريج هوكمياء لتآصررشيش المرشة وأبخرة المجمرة المكية ...
عبدالناصريهيئ براريد الشاي المنعنع الحارويمجد أحواض حقول (الزيتون ) ومرابع (وجه العروس) الخضراء وفراديس الترعات .. العم يصفف الفناجين المطرزة بالوشم المرموزعلى الصينية النحاسية العتيقة  ، ثم يطوف اثرئذ بصحون كعكة (الغرييبة) وفصوص (الفقاص) .
الليل يزحف بتوأدة.. وقد لاحت في عيون المقرئين والمنشدين حاجتهم للعشاء.. بعد برهة نفذت نكهة قصعات الكسكس الفوارإلى الغرفة ... توزع الحضوربين ثلاث موائد .. لمحت الغلاي عند الدفة القريبة من عبدالناصرينفث بخاره بقوة حتى اندلقت ديدان مائية برؤوس زجاجية كالدبابيس ...
وعلى العتبة تراكمت البلغات والنعال والصناديل إلى أدراج السطح .. وكنت ألهوبانتعالها .. فتغرق قدماي في جوفها .. أدخل قدما في بلغة وقدما في حذاء واليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى .. وأخطوعلى معبرحاجزالأرابيسك مترنحا ..أستند للحائط العالي حين أوشك على السقوط .. فينهرني والدي وقد يهزني بغلظة ويرفعني في غضب إلى الأعلى فتخرج قدماي من نعاليها بيسرويحط بي على جانب الحاجز.. أشرئب بصعوبة إلى الأسفل فأرى رؤوس النسوة من فوق تعبرن المراح الفسيح من غرفة إلى أخرى ومن شباك الحاجزأراهن مشغولاتة بصوان وكؤوس وأطباق وقصاع .. لغط مشوب باصطفاق الملاعق .. فحيح الغلاي .. ثم طست وصابون ونشافة.. والخرابة مقفولة ... توهمت أنها ما تزال آهلة بأرواح تتلوآيها وتعزف على مزاميرالشياطين.. ثم ماذا أيضا؟! عتمتها من نافذة المراح أقوى من عتمات الدهاليز.. هل سترحل الجنيات الليلة يا أبي ؟! وهل ستتطهرالخرابة من ماء القذارة كما تماهت الحكاية على صفحة السماق الكستنائي في قعر(محلة) لشيخ العرافين؟
رحلت (وردة) إذن !!
   انتهت طقوس المأتم ... صباح آخريبزغ من ستائرالليل ..صباح يدشن طقسه بسبايا الغمائم تجرها أحصنة ريح نافرة ... تبدوالسماء من عراء (الحلقة) مثل بحرتمخره مراكب السحب باتجاه أبعد من الريح... فتتهاوى أوراق الدالية اليابسة على المراح الفسيح ... كل شيء أمامي كان يوحي بنهاية ما ...
ألفيت والدي قد تزيى بجلبابه الأخضر.. حدست أنه سيخرج .. تشبثت بتلابيب جلبابه وارتجلت البكاء .. بعد إلحاحي واستعطاف أمي ورحال.. وافق أخيرا، لكن على مضض .!
كان رحال يحمل حقيبته البنية ذات قفلين صدئين ويد منخلعة ، مثبتة بسلك نحاسي .. سبقتهما لنزول الأدراج بفرح باد في خفة حركاتي  .. نزلت بتوجس مخافة أن يتحايلاعلي ويختفيان عني عبرالباب الخلفي...
استقلينا( الكوتشي) .. إقتعد أبي جنب الحوذي بينما اقتعدنا ــ رحال وأنا ــ على الكرسي الخلفي العريض تحت سقيفة جلدية خفيضة ، محفوفة بحواشي نواويش قزحية تشبه نواويش قبعة بابا الكراب (الكراب) الذي شغلت هيأة وقفته الأسطورية الباذخة أمام بوابة (المنصور) كل التذكارات السياحية ...
جذب الحوذي العنان ، فاندفع الحصانان إلى الأمام .. ارتج (الكوتشي).. قوة الجرأوقعتني على الحقيبة أمامي .. قال لي رحال:( أيوة كن رجلا .. كن رجلا ..) فتشبثت به وأنا أرقب أبي الذي ألفيته قد انخرط مع الحوذي كأنهما صديقين قديمين ، في حديث لم نتبين فحواه بسبب خبطات صفيحات الحوافرعلى الإسفلت بقوة ..
خبطات على ايقاع واحد، اثنين، واحد، اثنين ... كانت تردد صداها أسوارشارع المولى إسماعيل... مازلت متشبثا برحال .. مسح بيده الصلدة على رأسي وقال لي :
ــ أتعرف ما معنى أن تكون رجلا ؟!
أجبت ببساطة :
ــ أجل ياعمي ، معناه أن أقتحم ديجورخرابة (وردة ) وحدي مثلما كان يفعل والدي .. وأحارب عفاريتها اللامرئيين هناك من دون خوف...
فرد علي ضاحكا :
ــ لا..لا..أن تكون رجلا معناه ألاتبكي حين تسقط أويسقطك أحد ما في أية طريق...
فجأة زل حافرالحصان على الإسفلت .. رفع الحوذي سياطه ولوح به في الهواء وفجأة سمعت فرقعة على ظهرأحد الحصانين  فركض ركضا مسعورا هلعت له كثيرا وقلت لرحال :
ـــ عمي .. عمي .. هل تبكي الأحصنة في بلدنا ؟!
فرد عليّ بجواب مشوب بسخرية مبطنة :
ـــ لا..لآ.. الأحصنة لاتبكي ...
ـــ لماذا ؟
ــ لسبب بسيط يا بني ، لأن لها نزوعا غريزيا للإباء والكبرياء ولهذا لايتجمع لها دمع في الأحداق...
ــ عمي .. أرجوك اشتري لي حصانا عندما تعود من (الواحة).
انفجررحال ضاحكا مرة أخرى حتى إلتفت إليه والدي والحوذي ، وأردفت :
ــ أنظر، ألا ترى أنني قد صرت رجلا ، ألم ترصورتي على لوحة الشيخ عبد الكامل في غرفة الفوقي ؟!
وما كدت أنهي كلامي حتى رأيته يشيح بوجهه إلى أكمة غابة (الشباب) وبدا لي كما لوأنه ينطوي على سرما وضم الحقيبة إلى صدره بقوة من غيرداعي لتلك الحركة ... قال :
ــ أجل ، أجل لقد رأيتها ، حقا إنها لوحة رائعة جدا .. جدا.. أخبرني لي من علمك أن ترفع رأسك بهذا الإعتزازفي اللوحة ؟ قلت بزهو زائد :
ــ الشيخ عبد الكامل، صديق والدي  .. هكذا علّمني في ورشته .. رفع ذقني قليلا وقال لي انظرهنالك إلى الأفق البعيد .. إلى حيث يتربع القمر .. ففعلت لكن بصعوبة .
صمت قليلا ورأيت والدي يمد ذراعيه إلى الأمام ويصوبهما على شكل بندقية وهمية وخمنت أنه يتحدث عن حرب عالمية لم أدروقتذاك هل وقعت أم هي كانت قادمة ... ثم طفقت أرنوإلى قفا الحصانين وأذنيهما المنتصبتين الحادتين .. والريح تهفهف ضفيرتهما الملساء الناعمة .. وأتسمع إلى دقات قوائمهما التي ترددها الأسوار.. رقصة حصانين أم رقصة رجلين لست أدري من منهما كان يركض ــ الحصانان أم والدي والحوذي ؟!
عبرنا شارع المولى إسماعيل المطل على حدائق الحبول المعلقة والشرفات المشرعة على الجنائن السفلى .. حدائق غناء مثل سمفونية لاتخرسها عوادي الزمن .. فردوس الأزل حيث تختال الغزلان في مروج (العين الصافية) وتتصادح عصافيرالخطاطيف فوق عرش باب (بوعماير)  .
(لهديم) ساحتنا الأكورية ، ورحابة أسطورية بقامة دهشة لاتحدها حدود .. خطاطيف مشاكسة لرؤوس العابرين ..ولقلاق السورالعالي ، حارس الساحة المزمن، يحرس في برجه تاريخا عن أسرى غابرين ماتزال تشرق سلاسلهم في دهاليزحبس (قارى)...
توقف( الكوتشي) .. الناقلات هنا وهنالك .. ودعنا رحال ...
فتح النافذة .. نفحني خمسين سنتا .. ربت على كتفي وقال:( إياك أن تنسى العهد الذي بيننا .. كن رجلا...)
اشتريت قطعة (كرواسن) صباحية ساخنة محشوة بالشوكلاطة .. التهمتها على عجل ..ثم صعدنا زقاق (سيد النجار).. إثرئذ مرق طفل من باب متلبس بألواح قصديرية قد كانت في الأصل علب وأوعية للزيت وأوعية أخرى كانت لها علامة يدان متصافحتان ...
كان الطفل يعدو..في يده اسفنجة وأطلت أمه تلعنه من كوة بالسفلي .. وفجأة لاحقه شاوش يحمل محفظة وكان يترنح وعيناه متورمتان .. قرمزيتان.. ساقاه خائرتان .. بزته منفوشة.. وبين شفتية عقب سيجار، ورغم كل هذا الفوضى في هيأته فقد بدا متعجلا وغيرمكترث بما هوعليه وفيه... انتزع السيجارمن يد الطفل وقال له :
ــ سأعلمك لعبة ممتعة إنها أكلة الغول ..أولج أصبعه في ثقب الإسفنجة ثم أخرجها من الجهة الأخرى ... قال الطفل : طزززعليك لعبة قديمة تعلمتها في الدار... لدي أمي أصدقاء كبارتقول لي دائما هم أخوالي وأعمامي وهم مثلك ، كلهم يحلمون بالسيجارالطويل ووطواجين أمي وينفحونني بسيطات وأحيانا ريالات عندما ينتهون من أكل الشواية . وعقب الشاوش : ( وأنا أيضا هل تريدني أن أكون صديقا لك ؟.) و أجاب الطفل (أجل ولكن ليس قبل أن تنصرف وتدوّرمعايا ..)
كلام الطفل أوعزلي أن أشتري اسفنجة غيرأن والدي رفض بدعوى أن سفناج درب (سيد النجار) يدعك العجينة بقدميه ويشاع عنه أنه مصاب بداء السل وفوق هذا وذاك لايصلي الفجرفي مسجد (سيدي عمر).
كان علينا معا أن نعرج على الشارع العلوي وننزل منحدرا مرصوصا بأحجارصلدة صقيلة حيث يوجد حانوت الشيخ عبدالكامل في (قبة السوق) . قلت لوالدي : (ألاترى إنه يشبهك كثيرا ...) فرد علي (بل هويشبه أكثرجدي (بالمختار) ، ومع ذلك فلا علاقة قرابة بينهما وكثيرمن الناس يعتقدون ذلك  !) وكان جد والدي قد قضى في اشتباك مع فيلق من جنود الإحتلال في ملحمة من ملاحم نهرالجنوب .
ــ أمازال القمرهنالك في الأفق ؟.. والفارس يتأبط ساقه المبتورة ويضرب بسيفه أعناق العفاريت ؟!
صعدت الأدراج رأسا إلى الغرفة .. كان والدي يهمس لأمي شيئا ما ، أمرا بدا جادا وهاما جدا... عمروزينب ما زالايغطان في نومهما في (المصرية) .. اقتعدت أرضا .. أسندت ظهري على السداري .. رنوت إلى الجدار .. مكثت مشدوها .. كان الجدارأمامي أشبه بسقطة في هاوية لاقرارة لها !! رأيت الجدارأم رآني الجدار..حملقت فيه كثيرا فألفيته غريبا عني !! فجأة نزت دمعتان في عيني .. رباه .. رباه ماذا حدث ؟! وتصادى في رأسي كلام رحال (كن رجلا.. كن رجلا).. ألفيت مشجب لوحتي شاغرا.. أجل شاغرا مثل مشجب إعدام .. شاغرا .. مثل .. مثل ماذا ... مثل العدم .!
فراغ عميق سرح فيه بصري مثل سفرة في مجهول .. كيف اختفت لوحة صورتي .. وكيف توارى القمرفي الأفق .. وغاب الفارس الذي يتأبط ساقه.. وكتيبة الخيول الجامحة.. لوحتي.. يد الشيخ عبدالكامل الذي رفع رأسي إلى الأعلى وقال لي ( لاتتململ ابق هكذا مرفوع الرأس !)
صرخت من حيث لم أدري وبكل ماتجمع في صدري من نفس حتى استفاق عمروزينب .. أشرفت على المراح واستمريت في الصراخ ..
اللوحة !!
اللوحة !! صعد والدي مهرولا ، دخل الغرفة .. رفعني بين دراعيه وقال:
ــ مهلا، مهلا.. ورأيته أكثرإندهاشا وروعا مني  .. لم يصدق هوأيضا .. مسح الجداربعينيه يمنة ويسرة ... التفت إلى عمروزينب .. كانا متكئين على حاجزخشب الأرابيسك ، زينب تنظرإلى والدي يؤرجحني ويهدئني ، أما عمرفقد أدارظهره وكان يشرف على المراح .. يتلهى بورقة دالية ويترقب صعود أمي ...
أجلسني والدي على السداري .. دخلت زينب .. شرعت تفتش بين المخابئ والفجوات وتحت الأغطية وتحت طاولات السدادير..
قال والدي حانقا : كيف إختفت اللوحة وهل اختطفتها العفاريت ؟! لقد كانت بالأمس في مكانها هنا.. هنا .. معلقة على مشجبها المعلوم .. نعم لقد رأيتها بأم عيني وأنا أخدم الطلبة والمنشدين ثم إن رحال قد أسرلي حين قدمت له طست الغسل أن الأهالي في (الواحة) يرغبون في رؤية حفدتهم في (الغرب) وعيناه وقتئذ كانتا مسمرتين على إطاراللوحة ... قال عمروهو مازال على هيأته السابقة :
ــ لقد لاحظته هذا الصباح يتملى فيها كثيرا وكاد أن ينبس لي بسرما غيرأنه أحجم عن ذلك لما دخلت أمي :
ــ وهل كنا سنتنازل له عنها  لو رغب في ذلك ؟ ــ صاحت أمي من المراح ــ استدارعمروتقدم قدرثلاث خطوات من والدي وقال :
ــ ألا يمكن أن تكون قد سقطت في قبّ أحد المنشدين ؟!
ضحكت زينب ونهره والدي قائلا :
ــ ألا يمكن أن تكون قد سقطت على أم رأسك .. أنت دائما وكما هي عادتك تخلط الجد بالهزل ، أغرب عن وجهي ، أخرج .. أخرج للزنقة .
قلت وأنا مستلق على ظهري في السداري ويداي خلف رأسي:
ــ ماذا عساه أن يفعل بها رحال أوالمنشدون أوحتى العفاريت ؟!. قالت أمي :
ــ أذكرأن رحال كان يرغب في أن يرافقة عثمان إلى الجنوب .
وعقب والدي باستغراب جلي :
ــ أفهم من كلامك أنه قد يكون دس اللوحة في الحقيبة خلسة .. واختفى!
ــ ربما .. ربما والعلم لله!
ــ وما العمل الآن ، ربما يكون أخذها بدعوى أنه في مقدورنا أن نعود إلى حانوت الشيخ عبدالكامل ليشغل له لوحة لصورة ثانية ...
خبطت بقدماي كثيرا على الزليج وصرخت .. بكيت.. صرخت .. بكيت .. حتى تقطعت أنفاسي وهتفت :
ــ لن أقبل بأي صورة أخرى ما حييت غيرصورة في حانوت الشيخ عبد الكامل!
وانتفضت انتفاض الطائرالمجروح ..عدوت إلى البيت المجاور.. جعلت أقلب كل الأشياء في الصوان وصناديق الأغراض القديمة وألقي بها على الأرض .. أغلقت علي الباب بمزلاج عريض .. ضغطت على زرالنور بفردة حذائي .. وضعت على المائدة كرسيا .. صعدت السداري ووطأت على حافة الطاولة ، فمالت ووقعت أرضا ثم انقلب الكرسي فجأة ووقع بدوره على رأسي ... وانفجرت نوبة أخرى من صراخي وعويلي وحشرجاتي وامتدت في أعماقي حتى انقطعت آخرأنفاسي واستعرفي حنجرتي تهدج قاتل وطفقت أضرب بقدمي من شدة الألم والسعال . .. كان والدي وأخواي يخبطون بقوة على الباب وكنت أسمع في زوبعة الدوخة ويلات أمي صاعدة عبرالأدراج وزينب تضرب على ركبتيها ( أويلي شنودارفراسو)... نزل
عمروأتى ببراغي .. سمعت طرقات وضربات على دفتي الباب .. اهتزت الدفتان وفجأة اخترق رأس البراغي الفجوة بينهما ودفع والدي قفل المزلاج إلى الداخل ، فانخلع بدرجة يسرت له أن يرج الدفتان مرة أخرى ليسقط المزلاج على الأرض ، وانهمرعلى وجهي نورالحلقة ثم اندفعت أمي وتلقفتني بين دراعيها وبدربة بالغة ألقتني على ظهرها فأحسست على التوبهدنة غريبة كانت بردا وسلاما على دمغتي ...
نزلت بي الأدراج إلى الكشينة (المطبخ) .. نزعت فلارهتا ولملمت رأسي جيدا وأحكمت اللملمة بأنشوطة شديدة وفي تلك اللحظة تناهى إلي صوت جارتنا حليمة من خلف سورسطحها تستفسرعن سرهذه الجلبة في دارنا وصرالباب صريرا مسرعا فلاحت أمي (رقية) قادمة بخطى مهرولة إلى الكشينة وهي تستغفرالله وتحوقل ، وبعد هنيهة صرالباب من جديد فدخلت أمي (حليمة) البدينة بصدرها الواسع الذي يتسع لتوأمين وردفيها المكتنزتين وابنتها خديجة تتشعبط بتلابيب قفطانها ، كانت زينب تعيد تصفيف الصوان وصناديق الخزائن ووالدي كعادته كلما حل ببيتنا ضيوف يخرج ليبتاع ربطة النعناع وشايا وسكر(القالب) ولم يكن زمنئذ غيرالقلب من ماركة (النمر) وكنا لانشرب في الدارالكبيرة إلا الكأس المعدة بقالب (النمر) وكثيرا ما كنت أتساءل عن سرعلاقة السكرو(النمر) واهتديت مرة إلى أن عسل قوالب السكرالخالص لا يظفربحلاوتها إلا الفرسان النمورالصناديد !
نزلت زينب لتهيئ صينية الشاي أما أنا فقد غفوت على صدرجارتنا حليمة العريض واستعذبت النوم على رخاوته ...

0 التعليقات: