أساطيرالحالمين
كتابة السيرة الغيرية .. سيرة الآخرعلى غرارماكتب
ميخائيل نعيمة مع جبران خليل جبران ، وعبد الرحمن منيف في تناوله لـسيرة محمد الباهي
في عروة زمانه وكما فعل
غارسيا ماكيزمع حارس مرمى كولومبيا روني هيغيتا الشهير، هل
تعتبرجنسا أدبيا صنوا لجنس السيرة الذاتية كما عرفتها نظرية الأدب تمتح من نفس أذواتها
وطرائق سردها أم جنسا أدبيا خلاسيا يمتح من إواليات الرواية والسيرة معا ...؟
إن كتابة سيرة الآخرلهي من أصعب أجناس الكتابة الأدبية
إذ أنها تروم نقل لغة المحكي الشفهي أوالمحكي بحياة الآخرإلى محكي مكتوب يقتعد أساسا
على ميثاق الوفاء لشهادة الناطق في كلام بوحه مثلما في كلام صمته أيضا.. لأن للصمت
أحيانا لغته ورمزيته الممهورة بالإشارات الحاسمة في بنية المحكي ...
إن مايميزالسيرة الغيرية هو مدى إنزياحها عن الخيانة
الي قد تقترفها السيرة الذاتية باعتبارها رواية مشوهة وباغترافهما من أغوارالذات الكاتبة
والمنكتبة والشخوص واعتمالات الواقع...
وأعترف أنا المسمى إفتراضا رمزي ، كتبي مفلس ، كنت
أعتاش على مبيعات الكتب القديمة والمستعملة وقد أقفلت حانوتي بحينا العتيق منذ عشرين
سنة ، قلت أعترف أنه حين ورطني صديقي الشبيهي في كتابة سيرته الذاتية ترددت كثيرا في
هذه المغامرة العظيمة التي قلبت كل مفاهيمي للكتابة باعتبارالكتابة توثيقا لسيرة الأنا
وليست لسيرة الآخرحتى لاأسقط في مطب السيرة الغيرية التي قد تشبه شهادة الزور...
ولأنني عشت مع الشبيهي الراوي وصادقته منذ مرحلة
الصبا الأولى وكنت على دراية واسعة وعميقة بسيرته حتى أنني كثيرا ماكنت أناديه
"أخي " أعني شقيقي إلى درجة أن جميع ناس الحارة كانوا ينادونني "الشبيهي
" وكانوا ينادون عليه "رمزي " ثم أيضا لوضعي الإعتباري ككتبي وقارئ
نهم ومفتون بكتب السيرة الذاتية للكتاب العرب يفترض أنني قادرعلى تطويع اللغة واللعب
بمكر خطابها للتعبيرعن ما يخالجنا معا من أحاسيس وشعوراتجاه ذاتينا والمجتمع والوجود
بشكل عام وبالتالي يفترض أن أكون قادرا أيضا على توثيق سيرة "الشبيهي" كما
سيسردها علي في جلسات سمرفي هذا الشتاء من سنة 2010 ... فإنني قبلت بركوب عباب هذه
المخاطرة الإفضائية بصحبته وفاءا لعلاقة صداقتنا القديمة التي إبتدأت ذات أغسطس قبل
خمسين سنة يعني بالضبط قبل ولوجنا إلى الكتاب القرآني.. علاقة أكاد أقول أنها لاتختلف
عن علاقة الجسد بظله .. حتى أنني كنت أتساءل كل يوم ، من يكون الجسد فينا ومن يكون
الظل ؟؟ أهو"الشبيهي" أم أنا الكتبي المفلس وكاتب سيرته ضمن ميثاق الصداقة
التي تربطنا .. ؟ أعني أنا الشاهد والموثق .. ربما منذ طفولتنا ونحن نتبادل هذين الدورين
في سهو منا ومن دون أن نكترث بسلوكاتنا مثلما تبادلنا إسمينا عن توافق وتواطؤعلني في
اللعب بفقرات هذه السيرة القادمة من دهاليزإعترافاته أقصد إعترافاتنا...
كان إذن علينا معا أن نحدد تعاقدا من أجل إنجازهذا
الإتفاق ، تعاقدا يتعلق بالمكان والزمان ولهذا قررنا في هذه الفضفضة الطويلة أن نضرب
المواعيد في هذه الليالي الشتوية هنا في غرفتي على السطح وببيتنا القديم حيث مسقط رأسي
القريب من مسقط رأسه ، لنكرع من نخب خلوتنا وسمونا الروحي وأستعمل في هذه المهمة جهازآلة
التسجيل ثم أقوم بتفريغه على حاسوبي الخاص . واتفقنا أيضا على أن أتجنب طرح الأسئلة
عليه حتى لاأوجه سيرته الذاتية في الطريق الذي سيفضي إلى تداخل سيرتينا معا ولذلك لم
تكن مهمتي أكثرمن الضغط على زرالتسجيل والإنصات إليه ثم تفريغ إعترافاته التلقائية
على الحاسوب لكي أقدمها إلى قارئنا المفترض خالصة من بعض زلات اللسان وأخطاء النحووالصرف
لأن "الشبيهي" بالتعبيرالدارج "ماعندوش مع النحو والصرف والإعراب''
منذ أيام المدرسة وحصص الفلقة التي لن تنسى بسبب أخطاء بسيطة ومتكررة تتعلق بالحركة
والسكون والخلط بين تاء التأنيث الساكنة والتاء المربوطة ..إلخ "
أما أنا الشبيهي فقد تعرفت على رمزي الكتبي منذ
بدأت أدرك العالم من حولي .. لست أدري كيف إنجذبت إلى صداقته قبل خمسين عاما حتى قبل
أن نعي معا معنى الصداقة والوفاء الأبدي .. كنا ونحن نكبرتكبرصداقتنا إلى حد أننا صرنا
مثل توأمين .. واليوم بعد خمسة عقود تغيرفينا كل شيء في المظهرواللباس والسحنة ، لكن
لم تتغير روحانا ورؤيتنا للوجود .. ينعتونني كثيرا بالغيبوبة وينعتونه بالغياب .. أنا
الغيبوبة لأنني أعيش على هامش الثرثرة الإجتماعية وينعتون رمزي بالغياب لأنه يعيش في
برجه العاجي على السطح .. على الهامش السامق من الثرثرة الإجتماعية مع حماماته وقططه
ولفافاته المعبأة (بيني وبينكم) بالحشيش وزجاجات نبيذه وكتب السيرة الذاتية العربية
الشهيرة التي تجعله يقارن مسارات حياة الآخرين بمسارحياته لعل ذلك يريحه كثيرا من شعوره
بالذنب ، ما يساعده على الأقل على نسيان وحدته القاسية بعد إفلاسه وتراجع مبيعات كتبه
مما أدى به إلى إقفال حانوته وإعلان فشل مشروعه وبالتالي مشفله في الحياة حتى أمسى
من دون بيت ولازوجة ولا أولاد ولاكتب...
إلتأمنا إذن في ليلتنا الأولى في أحد أيام شتاء
من سنة 2010 .. كان علي أن أغلق النافذة الوحيدة المطلة على الزقاق بإحكام حتى ننعم
بالجوالدافئ في هذه الغرفة الضيقة الأنيسة في السطح .. هاهوصديقي "الشبيهي
" جالس أمامي كما ترون يسوي جاكيتته الصوفية السميكة وهوينظرإلي كما لوأنه ينظرإلى
مرآته الداخلية مما أوحى إلي أنا أيضا ومن دون أن أدري طفقت مثله أسوي معطفي الرمادي
كما لو أنني أنا ايضا أنظرفي مرآة معلقة أمامي..
لم يسبق في حياتي أن شعرت معه بلحظة جد أكثرمما
أشعربها الآن في هذه الليلة الأولى من كلامه المباح
..
هيأت لفافتي.. أخذت نفسا عميقا .. ضغطت على زرآلة
التسجيل وبإشارة من يدي قلت له ''لنبدأ إذن .. يالله تكلم أرا ما عندك '' ...
هاهو"الشبيهي" بعد نصف قرن يبوح ويخرج
من غيبوبته .. أما أنا فلم أكن لألقي بالا لكلامه في تلك اللحظة لأنني سأعيد تفريغه
على حاسوبي الشخصي .. كنت أشبه بأصم ، كما لوأنني أعيد سرد سيرتي على نفسي وحيدا أمام
المرآة .. وبدأت أطرح السؤال على نفسي كيف إنخرطت في مغامرة كتابة هذه السيرة لحياة
شخص شبيهي كنت أعلم بتفاصيلها يوما بيوم وبسيرتها نقطة بنقطة وفاصلة بفاصلة ..
شرع "الشبيهي" يحكي بجد وهو ينظرفي عيني
كأنما يتوسم في بريقهما تفاصيل أكثرمن حياتي الشخصية التي تخصه ولذلك كنت أنا أيضا
أساعده على الحكي بالنظرإلى عينيه لعله يستذكروينجومن مكرالنسيان..
إفترقنا في الليلة الأولى في فتور.. وفي الصباح
بعد أن تناولت فطوري وأيقظت مزاجي بأولى سيجارة من التبغ الأشقرالراقي .. أخذت فنجان
قهوتي .. ضغطت على زرآلة التسجيل .. فتحت حاسوبي وشرعت أفرغ إعترافاتي عفوا إعترافات صديقي
"الشبيهي" ...
0 التعليقات:
إرسال تعليق