من ذا الذي منكم أيها الشعراء قد يمنعني من أن أكون
شاعرا مثلكم ويحرمني من أن تعلق صورتي بدبابيس النخوة وبوجهي الفولاذي مشوبا بدخان
السيكارعلى صفحتي الزرقاء !؟ طالما أن بطن هذه الفوضى بات يلفظ كل يوم عشرات
الشعراء مثلما تلفظ الفأرات أبناءها بين سقط المتاع أوحيثما داهمها وجع المخاض
الأليم .
أنا شاعر وكفى .. بالموضة أم بضربة حظ أو لعبة رند لا يهمكم
في شيء كيف أتيت إلى الشعر.. لكم أن تلتمسوا لي أحد الأسباب والأعذارفحسب .. أعرف
كما تعرفون أنني لاأكتب الشعر وأقبض على جمرته بحرقة وإنما أتزيى بقميصه النيساني
المشجر مثل آخر تقليعة ربيعية .. أتطاوس فيه مثلما يتطاوس كثيرمن الشعراء الشباب الذين
نشروا من الدواوين ما لم ينجزه شيخ الشعراء طيلة ستة عقود .
إن أزمة قصيدتي ليست من أزمة الشعر لديكم .. إنها فقط أزمة
إلقاء قصيدة بصوتي الرخيم على منصة مهرجان حتى لو كنت في ذيل قائمة شاعر المليون .
وأما أسمى شهادة اعتراف بتجربتي فلن تتحقق لي إلا بعرض
صورتي يوما ما على شاشة التلفاز وأنا أتلوا آخر قصائدي في مهرجان وطني .. هذا
قصارى ما أحلم به وأطمح إليه .!! بل لو تحققت تلك المعجزة فلن أتردد لحظة في توقيع
مغادرتي الطوعية للعبة الشعر هاته إلى الأبد .
ها قد حل موعد المهرجان .. لم يكن نجم هذه الدورة شاعر
طاعن في الشعر سئم من الحلم بإقامة باذخة في بستان الاستعارات والمجازات وبات يحلم
فقط بإقامة هادئة وسكينة صوفية على شفير قبرمعلوم .. بل كان نجم هذه الدورة
الكاميرامان الذي كان يطارده حشد غفير من الشواعر والشعراء المغمورين القادمين من
عوالم الفضاء الأزرق .. يتحينون الفرصة معه ويتوددون إليه بالإبتسامات الصفراء
لعله يزووم عليهم ولو برمشة لقطة يكون صداها مدويا في حومتهم وأجرها عند الله مثل
صدقة جارية .
أخيرا حدثت المعجزة بعد أن التفت إليه خصومه من الإخوة
الأعداء الشعراء وأقحموا إسمه إشفاقا عليه حيث أن أخشى ما كانوا يخشونه أن يصاب بانهيار
عصبي أو هيستريا قد تطوح به إلى قسم الإنعاش .
ها شاعرنا في يومه المشهود يعتلي منصة المهرجان .. إن ما
كان يشغله أكثرفي تلك اللحظة ليست عيون الشعراء والجمهور المسددة نحوه مثل الرصاص
المطاطي بل عين الكاميرا التي كان هو من يزووم عليها بعينيه أكثر مما كانت هي
تزووم على وجهه الفولاذي الصقيل البارد .
لم يشك لحظة بعد نزوله من المنصة وخروجه إلى حال سبيله
أنه قد أصبح نجم عائلته وجيرانه في قريته النائية ، ولذلك قرر أن يقيم حفل عشاء
باهظ الثمن وباذخ المائدة يليق بإنجازه الشعري .. حفل عشاء يحتفي فيه بنفسه لنفسه محفوفا
بأقارب زوجته لكي يشاهدوا بأم عينهم على شاشة التلفاز صهرهم الشاعر مزهوا منتشيا
أيما انتشاء بإلقاء قصيدته الأخيرة بين باقات الورد والأضواء الكاشفة ومكبرات
الصوت وغمرة تصفيقات الشعراء والجمهور.
ذات ليلة انطلق بث البرنامج الثقافي التلفزي وانطلق معه
خفقان قلبه ودهشة
أقربائه ..
إنها السهرة العائلية الكبرى وسهرة السهرات .
كان الشعراء والشواعر يمرون الواحد تلو الآخر تباعا وكان
هو في كل مرة ينزل فيها شاعر من المنصة ويصعدها آخر تقصفه نظرات أقاربه متسائلة في
سر وحيرة إن كان هو من سيأتي عليه الدور القادم ، وكان هو من جهته يرد على نظراتهم
الملحة بإشارة من يده بألا يستعجلوه في الطلوع على الشاشة فدوره قادم لامحالة .
أخيرا يا للنكبة والفاجعة !! هاوجه الصحفية الجميلة
مقدمة البرنامج ببصمة ابتسامتها الأسبوعية المعهودة وتسريحة شعرها التشكيلية النادرة
تعلن عن إسدال ستار المهرجان وتتمنى للمشاهدين بقية سهرة جميلة .!!
ثم طفق شريط الجينيريك ذي الخلفية البيضاء يصاعد بتوأدة
رويدا رويدا ، وكانت مع صعوده تعرج روح الشاعر أيضا في كفن الجينيريك إلى مثواها
الأخير في مقبرة الخذلان .
0 التعليقات:
إرسال تعليق