الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، نوفمبر 24، 2018

الأدب مرقمنا : فلوران كوست ترجمة عبده حقي


ما الذي أضافته (البيغ داتا big data) أي (البيانات الكبرى) لمساعدتنا على تفسير الأعمال الأدبية لهوغو أو بالزاك أو فلوبير؟ مما لا جدال فيه أنها أضافت أشياء كثيرة ،
لأن العلوم الإنسانية الرقمية فضلا عن إسهامها في تراكم البيانات بشكل ميكانيكي من النصوص الأدبية ، فإنها قد غيرت علاقتنا بالأعمال الأدبية وطريقتنا في قراءتها.
ما من شك في أن تقدم الرقمية الإنسانية قد أثر كثيرا في عاداتنا لفهم وقراءة ومعالجة وإدراك الإنتاجات الأدبية .. إنه اندفاع فرانكو موريتي  Franco Moretti مشفوعا بأسلوب نقدي ونظري جديد ، قوي ومنحاز إلى ما هو تجريبي حول فعل : القراءة عن بعد .. distant reading . لكن كيف يمكن تنظيم هذه التجارب في النقد الأدبي الرقمي التي تسمى أيضا المعلوماتية ؟ و ما الذي يمكن أن تغيره في قواعدنا اللغوية العامة في الأدب وطريقتنا في الكتابة ؟
الأدب في الحياة المخبرية
إن تدشين مجلد مجموعة (collection) جديدة موسومة ب Theoria Incognita ، التي تدعو إلى ممارسة نظرية غير مقيدة ومندفعة ، يعني أن أدب المختبر هذا قد جاء نتيجة عمل الترجمة التي انتهزت فرصة استيراد النقد المعلوماتي ـ النقد المعالج بالمعلوماتية ـ في إطار الإنسانيات الرقمية (1)digital humanities. وبوضعه تحت رعاية فرانكو موريتي ، الذي بادر إلى لعب دور ريادي في هذا المجال (2) ، فإن هذا المجلد يعتبر مع ذلك عملا جماعيا يضم ثماني مقالات موقعة من طرف خمسة أو ستة مؤلفين نشرت في البداية على الإنترنت على موقع مختبر ستانفورد الأدبي  Stanford Literary Lab ، الذي يديره اليوم مارك ألجي هيويت (Mark Algee-Hewitt.
إن هذا المجلد في مجمله قبل  كل شيء له الفضل في مدنا برؤية ميتا ـ نظرية حول الرقميات الإنسانية التي تتعارض والتصور الكاريكاتوري الذي يتبناه البعض تجاهها ألا وهو كونها إنسانيات باردة ، متسلسلة ، خوارزمية ، مجهزة وممولة ماديا بشكل ضخم ، وهي منخرطة في لعبة النيوـ ليبرالية وتعتمد مصادر خارجية سريعة تستهدف فعل القراءة ، وتقصي مهام التأويل التقليدية وتبدي شكلا غير مرغوب فيه من النزعة العلمية .  باختصار إنه ليس إلا (تدفق كليشيهات) حول الوضعية (positivism) البسيطة للإنسانية الرقمية (ص 106). وبدلاً من إظهار بعض الباحثين  يتم التركيز على الرغبة في سحق الآلات ومساءلة منظومات (corpus) هائلة لاستخلاص المعطيات بشكل متكاسل ، وخلافا لهذا الموقف يبدو أنه من المهم جدا اعتماد طرق جديدة للعمل تفرضها العلوم الإنسانية الرقمية.
العمل الرقمي بالمعنى الدقيق للكلمة يبدو هنا واضحا في جميع الحالات المتذبذبة التي فتحتها حركة البحث الاستكشافي : إننا نختبر ، نتلمس ، نضعها في منظور ما ونجتمع حول طاولة هي ( أداة ضرورية مثل معدات أخرى أكثر تكلفة ) ، نقتسم المهام ، نناقش تعثرات خطواتنا ، نترك افتراضات البداية ، وفضلا على إعادة تنظيمنا ، نقوم بإعادة تشكيل منظومته (corpus) ، نتريث ، ننقذف بين الحلقات الانعزالية ومناقشات في مجموعة صغيرة وتدفقات بريد المراسلات الإلكترونية ، لكن الأهم من كل هذا ، أننا نتحلى بالصبر بحيث " إذا كنا نبحث عن السرعة فلن تكون هناك قيمة لطرق التأويل التقليدية ". وينتهي بنا الأمر إلى نشر نتائج تكون دائمًا تقريبية ومؤقتة . إن الأدب في المختبر كتاب يعترف بالاختلاف والجدل ويرفض تجاهل العمليات والوساطات التي تسهم في الإنتاج التدريجي والمضطرب في كثير من الأحيان للعلم والمعرفة . وبهذا الصدد ، فإن هذا المجلد يستحق حمل عنوانه جيدًا وهو يتيح لنا أن نرى فيه نوعًا من التأويلات المرفقة بالعلوم الصعبة ، ولكن التشاركية بشكل خاص .
البيانات الكبرى والبيانات الذكية
إذن ما الذي يتم قياسه بالضبط في مختبر ستانفورد الأدبي؟ نقوم باستخدام الصور الاشعاعية لمنظومة (corpus) النصوص لتحديد الخطوط والأسباب اللغوية غير المحسوسة لكنها خاصة لكي تكون بمثابة توقيع نوعي لجنس أدبي (الذي يجعل مثلا من رواية ما رواية ذات ملمح قروسطى) ، ونحدد كمية التردد والإطناب في الكلمات حسب طبيعتها النحوية قصد تقييم التنوع المعجمي الغنى المعلوماتي ، ونقوم بنفس الشيء مع مختلف أشكال الأفعال والحالات الدلالية و السلسلات التركيبية ( syntagmatique) وتوليفة الاقتراحات ونقيم أهمية الحوار والسرد في بعض فقرات روايات القرن التاسع عشر حيث نسبية الأسماء والأفعال في علاقات البنك العالمي ونقوم بتصنيف أفعال القول في الروايات لقياس حجم الصوت في هذه الأعمال الأدبية.
كما تواجه من جهة أخرى فرق مختبر ستانفورد الأدبية بقلق حقيقي لتفسير مسألة معرفة ما الذي يضيفه تراكم البيانات الجاهزة بواسطة العلوم الإنسانية الرقمية. هناك فوائد لا يمكن إنكارها : البحث المعلوماتي الذي يدعم النظريات والتصنيفات الأدبية (ستقول الأرواح الشريرة أنه من خلال اقتحام الأبواب مفتوحة ، فإنها تؤكد بشكل مبتذل ما كنا نعرفه من قبل ) ؛ كما أن هذا الإجراء يجلب المزيد من الدقة وينحي الأحكام الانطباعية التي يكون النقد الأدبي قادراً على قولها (إذا كانت جديدة ، فذلك راجع لكونها دقيقة) . مع قواعد البيانات مثل هذه ، نقوم بإعادة تشكيل منظومات (corpus) تكون أقل تشريعا ، الأقرب للأرشيف والأكثر انفتاحا على المدى الطويل ، حيث البيانات الكبرى تصبح بيانات طويلة الأمد . ولكن لأن البيانات تنتج أحيانًا نتائج مضادة للحدس تتعارض مع الحس العام الأدبي ، فإن هذه الاستطلاعات الرقمية لديها أيضًا وسائلها لدحض الأدلة القوية للنظريات الأدبية : وبالتالي فإن المفهوم الهيغيلي للمأساة باعتباره صراعا ديالكتيكيا يجد إنكارًا قويًا في تحليل الرسوم البيانية التوضيحية لمسرحيات شكسبير و سوفوكليس ، حيث لا تحظى الشخصيات المركزية بالضرورة بالمكانة التي تليق بها . إن المواد التي تتألف منها الأدبيات المخبرية محمولة بقلق يروم توريط نظرياتنا الأدبية في الاختبار التجريبيً ، ومن المهم التأكيد على هذه المفارقة : فالعبور بواسطة التجريد هو أقصر طريق نحو نظام اختبار في الدراسات الأدبية ، والذي من شأنه أن يستند إلى التجريبية الجيدة.
والأهم من ذلك أن المساهمة المعلوماتية تتمثل في اضطراب علاقتنا بالأدب وطريقتنا في  القراءة . ووفقًا ل فرونك  موريتي ، فإن النقد الحوسبي المعلوماتي لا يتعلق فقط برؤية الأشياء في إطارها الأكبر:
[...] عندما نعمل على 200000 رواية بدلا من 200 ، فإننا لا نفعل نفس الشيء ألف مرة أكثر؛ إننا نفعل شيئا آخر. (ص 266) بعيدًا عن لعب دور ثانوي وملائم فقط  ، فإن المعلوماتية تثير قفزة نوعية تنطوي على تحويل في طرق صنع المواضيع الأدبية . تقوم عملية إعادة التشكيل الرقمي للمجموعة (corpus) الأدبية بتعديل مقاييس القراءة ومعها وحدات الملاحظة: " الحجم يغير طبيعة الموضوع " (ص 268).
من ناحية أولى ، تدفع العلوم الإنسانية الرقمية ما هو أدبي إلى الربط في تحليله لوحدات صغيرة جدًا مع استنتاجات على نطاق واسع جدًا ، لحل النصوص في ضباب من البيانات ، ويمضي في إخفاء الظاهرة الأدبية المتاحة من خلال التجربة العادية لقراءة ، فردية ، إنسانية ، صامتة وتأويلية بالأساس . من ناحية ثانية ، وكما يؤكد ذلك "التشغيل أو دور القياس في النظرية الأدبية الحديثة" ، فإن الإنسانيات الرقمية تحتم على النقد الأدبي إنشاء بشكل حيوي مفاهيم جديدة تكشف عن حقائق ملموسة نسبيا وتتطلب ملاحظتها رسوما بيانية وغيوما نقطية وخطاطات وجداول .. إلخ.
إن هذا التحول يشبه علم الفلك بعد اختراع التلسكوب : حيث سيسمح منذ الآن للأخصائيي الأدب باستكشاف ووضع تخطيطات ل"الكون الأدبي بكل مجراته ونجومه البراقة وثقوبه السوداء". (صفحة 33) . إننا ندرك جيدًا أن البيانات التي يقدمها تلسكوب هابل ليست دقيقة جيدا  وناتجة من بروتوكولات عالمة مصنوعة من عمليات تقنية ووساطة معقدة . لكن هذه الصورة القائمة على الواقع ليست أقل صورة للواقع.
إن أدوار هذه المقاييس تكشف أيضاً عن حدة وحساسية في استخدامنا للمفاهيم ، مثل تلك بعض المواقف عندما نحاول على سبيل المثال استخدام عدة نظارات مختلفة حيث نصير مدركين للطريقة التي ستغير بها نظرتنا للواقع. . ومن أجل العودة إلى تمييز Koyre ، قمنا إلى حدود الآن بالتحليل بواسطة أدوات أدبية التي تطيل أجهزتنا ، ولكنها لا تتناسب مع القياس الكمي (على سبيل المثال ، مفهوم الشخصية الرئيسية) ؛ نحن مجهزون بقواعد بيانات وميتا بيانات وخوارزميات لمعالجتها ، ويمكننا منذ الآن أن نفكر بأدوات ، والتي ، من خلال إشراك سلسلة من الإجراءات والعمليات ، قادرة على التقاط الحقائق التي لا تقع تحت الحواس (على سبيل المثال ، فضاء الشخصية ، أي مقدارالمساحة السردية المخصصة لشخصية معينة ، أو الحجم الصوتي لأي رواية).
ولهذا السبب يجب أن نرى في المقاربة المعلوماتية التي يدافع عنها مختبر ستانفورد الأدبي (Stanford Literary Lab  ) دعوة لإعادة فتح ورشة المفاهيم الأدبية. ولكن نقول لأولئك الذين يتحسرون على أن الإنسانية الرقمية تشير إلى عدم موت للتفسير الأدبي ، سوف نجيب وبدعم من الكتاب أنه في الواقع لا نتوقف عن التفسير تحت تأثير خوارزميات متطورة وأننا لا نعمل سوى على تحريك التدخلات الفكرية للباحث المطالب بإعطاء الوضوح لهذه الكتلة من البيانات و طرح المسببات في العلاقات المتبادلة التي لاحظها . هذه هي الطريقة التي يمكن بها تقديم البيانات الكبرى بشكل قانوني باعتبارها بيانات ذكية.

Florent Coste, « La littérature en numérique », La Vie des idées , 8 mai 2017. ISSN : 2105-3030. URL : http://www.laviedesidees.fr/La-litterature-en-numerique.html


0 التعليقات: