هل سننسى عام كورونا ونطوي ملفه الأسود تحت إبط النسيان مثلما نسينا أو تناسينا أعواما قديمة كانت فظاعاتها وكوارثها أفدح مما خسرته الإنسانية خلال جائحة كورونا عام 2020. هل يليق بنا كما هي العادة أن نشعل شموعا ملونة ونتحلق حولها في ليلة السهرة مثل فراشات غبية .. نتبادل ابتسامات ونوزع باقات ورود .. بطاقات رقمية للتهنئة ببزوغ العام الجديد .. نثخن رسائل جيمايل وذاكرة واتساب وفيسبوك وأنستغرام بجمل جاهزة نكررها كل عام من دون ملل .. نمارس لعبة التغابي بل التحايل على فواجع الفقدان .. بعد أن مشينا حولا كاملا خلف طوابير طويلة من النعوش .. وآلاف القبور التي لم نحفرها في الأرض بل حفرناها في ثرى وجداننا ودفنا فيها أقرباء وأصدقاء اختطفهم وحش كورونا في غفلة منا ونحن نرتع في وهم الخلود ولذة النسيان .
منذ اندلاع
الجائحة في مطلع 2020 لم أجعل منها أم المعارك دفاعا عن حياة لا أملكها .. ولم
أجعل من الحجر الصحي سورا صينيا لصد غزاة الفيروس ومن الكمامة بوابة فولاذية موصدة
بإحكام لتحرس جسدي من الطفيليات الخبيثة ومن محلول التعقيم وضوء لتطهير اليدين من
أدران الكوفيد المندس في كل الأشياء . بل تدججت بدروع من قراطيس التاريخ القديم ..
وجعلت من حولي جيوشا عرمرم من ضحايا الطاعون الأسود والأنفلوانزا الإسبانية
وتمنطقت بحزام الإيمان بالقدر ثم واصلت يوميات حياتي بحثا عن نبتة المعرفة...
كل يوم كنت أمشي وحيدا .. كأنني في أرض موات .. ترافقني شمس يناير
الباردة .. وتهفهف شالي الأحمر نسيماته المنعشة . وحيدا كنت في قارة الحجر الصحي
حتى لأتوهم أحيانا أنني مخلوق غريب نزلت للتو على كوكب الأرض .. ولا أستيقظ من
وهمي سوى على زعيق سيارات الإسعاف التي كانت تنقل ضحايا الوباء إلى قاعات الغوث في
انتظار دورها في جناح التنفس الاصطناعي.
أجوب الشوارع المقفرة .. وأرنو إلى غربة الأزقة .. وحزن الشرفات ..
وأتسمع لحفيف الريح حاملة عويلا ونواحا يتصادى من خلف الأبواب الموصدة ..
وأنا أمشي وحيدا
.. أعزل.. تحاصرني عشرات الأسئلة .. وجودية .. فلسفية .. دينية .. نفسية .. من أين
جاءتنا كورونا ؟ من غضب الأرض أم جزاء من السماء ؟ من مختبر يوهان أم من نزق
الطبيعة ؟ من القضاء والقدر أم من أجندة البشر!؟ من خطأ في التركيب البيولوجي أم من نظرية المؤامرة !؟
كانت الأيام
تمضي بنا وبأسرارها الملغزة .. القنوات تلفظ سموم أخبارها .. نيران تنانينها الحارقة .. فنحترق ألف مرة
في اليوم .. نموت بل نقتل مئات المرات في كل نشرة .. وكأننا خرافا نساق كرها في
مجزرة عالمية .. نصطف في الطابور .. نسير عن طواعية إلى حد المقصلة المنتصبة خلف
بلاتوهات كما لو أنها ديكورات لساحات
إعدام جماعي ..
لقد جعلتنا بل
صنعت منا مستحضرات الأخبار أعداء بعضنا البعض .. وحرضتنا سموم التشكيك بيننا
وأوامر التباعد الاجتماعي إلى التطير والتوجس من معانقة وتقبيل أحبتنا .. واكتفينا
في لقياهم بعبارات جوفاء باردة وخالية من كل صدق وحرارة الملامسة والمصافحة.
فهل أفقدتنا
كورونا دفء إنسانيتنا أم نحن من تآمرنا على بعضنا البعض ووأدنا إنسانياتنا مخافة
من فضيحة الوباء الملغز .. كم تكفينا من أعوام لنسترد تلك الحميمية المعطوبة .. كم
تكفينا من سواعد ومعاول لهدم أسوار التباعد الاجتماعي الوهمية من مخيالنا .. من
نفوسنا .. هل ستسعفنا خدعة النسيان مرة أخرى لنضمد جراحات الفقدان .. ونوثق ما
عشناه من قصص وحكايا في موسوعة قصصية
اسمها : كان
ياما كان
.
0 التعليقات:
إرسال تعليق