الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، سبتمبر 13، 2023

قصة قصيرة "دوخة الأرجوحة" : عبده حقي

 


في عالم يتأرجح فيه الواقع على حافة الحلم، كان هناك مكان يعرف باسم حديقة الدوار الأثيري. لم تكن هذه الحديقة الغريبة تشبه أي حديقة أخرى، لأنها كانت عالمًا معلقًا بين عوالم الأحلام واليقظة، ومكانًا كانت فيه قوانين الفيزياء مجرد اقتراحات، وكانت الحدود بين العقل والجنون غير واضحة إلى درجة لا يمكن التعرف عليها.

في قلب هذه الحديقة كانت توجد أرجوحة شبكية ضخمة، أرجوحة تمتد عبر الهوة اللامتناهية بين شجرتين بلوريتين شاهقتين. تمايلت الأرجوحة بلطف، كما لو كانت كيانًا قائمًا بذاته، ومجرد النظر إليها كان يملأ عقل المرء بإحساس مذهل بالدوار.

وقيل إن كل من يجرؤ على الاستلقاء على الأرجوحة الشبكية سيحصل على لمحة عن أعماق عقله الباطن، وهي رحلة إلى ممرات متاهة عقله.

بعد ظهر أحد الأيام المشمسة، غامر متجول يُدعى إليسيوس بالدخول إلى حديقة الدوار الأثيري. فضوله، مثل العثة للهب، جذبه نحو الأرجوحة الغامضة.

إليسيوس، رجل ذو روح جريئة وميل للسريالية، صعد بحذر شديد على الأرجوحة. في اللحظة التي اتصل فيها جسده بالنسيج المتمايل، تحول عالمه. وأصبح الواقع نفسه مادة مرنة، وذوبت حدود وجوده في الأثير.

لقد رأى رؤى متلونة لمناظر طبيعية سريالية، حيث كانت الجبال مصنوعة من حلوى القطن، والأنهار تتدفق بالفضة المنصهرة. وكان إليسيوس يرقص مع شخصيات غامضة مكونة من ضوء النجوم، ويتحدث مع الأشجار التي تهمس بالأسرار بلغة لا يفهمها إلا هو.

لقد فقد الوقت كل معنى عندما اجتاز هذه العوالم الوهمية. لقد شهد ذكرياته ورغباته تتجلى ككيانات ملموسة، ورقصوا حوله، مستهزئين ومضايقين قبضته الهشة على عقله.

عندما تأرجح إليسيوس على الأرجوحة، أصبح جزءًا من إيقاعها الذي لا نهاية له، بندول أبدي يتأرجح بين عوالم العقل والفوضى. ضحك بصخب وهو يحدق في عيون قنديل البحر العملاق الذي يرتدي قبعة عالية، وبكى بلا حسيب ولا رقيب عندما أدرك أن النجوم في السماء كانت الأحلام التي لم تتحقق لأرواح منسية.

لم يتمكن إليسيوس من معرفة المدة التي قضاها على الأرجوحة الشبكية، لأن الوقت نفسه لم يكن سوى وهم في حديقة الدوار الأثيري. وفي نهاية المطاف، استسلم للجنون واحتضن الجمال الملغز لكل شيء.

عندما خرج أخيرًا من الأرجوحة، ظهر رجلاً متغيرًا، وتغير عقله إلى الأبد بسبب دوار الأرجوحة. لم يتمكن أبدًا من شرح تجربته للآخرين بشكل كامل، لأن حديقة الدوار الأثيري كانت تتحدى الفهم والعقلانية.

عاد إليسيوس إلى العالم حاملاً معه الذكريات السريالية عن رحلته. لقد أصبح فنانًا، محاولًا التقاط الجوهر الذي لا يوصف لدوار الأرجوحة على القماش، لكنه كان يعلم أن بعض التجارب كانت ببساطة بعيدة عن متناول الفهم البشري.

وهكذا ظلت حديقة الدوار الأثيري مكانًا غامضًا وغير مفهوم، وسرابًا متلألئًا على حافة الواقع، حيث تتأرجح الأرجوحة إلى الأبد، داعية أولئك الذين تجرأوا على النظر في هاوية عقولهم إلى الاستسلام لدوار العالم. مجهول.

بينما كانت الشمس تنحدر تحت الأفق، محولة حديقة الدوار الأثيري إلى نسيج من ألوان الشفق، نزل إليسيوس من الأرجوحة الشبكية الساحرة. كانت حواسه تدور مثل الدوامة، وأفكاره عبارة عن دوامة من الأحاسيس غير المفهومة.

لكن قصة الأرجوحة لم تنتهي بنزوله. لا، لقد طبعت الأرجوحة الشبكية نفسها على روح إليسيوس، وتسرب دوارها إلى جوهر كيانه. وجد أن العالم العادي لم يعد يسيطر عليه.

في كل مكان ذهب إليه، بدا الواقع نفسه متذبذبًا وغير واضح المعالم. تلوت الشوارع وتحولت مثل الثعابين، وذابت المباني إلى أشكال سائلة، وتحولت وجوه الناس إلى أقنعة مجردة. كان الزمن يجري في تيارات غير منتظمة، لحظات تمتد إلى ما لا نهاية، وثواني تمر مثل همسات عابرة.

لم يتمكن إليسيوس من التمييز بين الأحلام واليقظة. في سباته، استمر في التأرجح في الأرجوحة الأثيرية، وزيارة المناظر الطبيعية الغريبة التي تتحدى كل الأسباب. كان يتحدث مع كيانات من خارج الكون، ويرقص مع أشباح خياله.

فقدت الكلمات معناها، وتواصل إليسيوس من خلال لغة غامضة من الرموز والألوان. لقد رسم لوحات قماشية تقطر بجوهر دوار الأرجوحة، وأولئك الذين حدقوا في أعماله كانوا مندهشين ومرتبكين بنفس القدر.

ومع مرور الوقت، أصبح إليسيوس لغزًا، ومفارقة حية عاشت على حافة الهاوية بين العقل والجنون. كان الناس يتهامسون عن الرجل الذي أصبح واحداً مع الأرجوحة، الرجل الذي أسلم نفسه لدوار المستحيل.

وهكذا ظلت قصة إليسيوس والأرجوحة تحير من أراد فهمها. ظلت الأرجوحة في حد ذاتها لغزًا بعيد المنال، وبوابة إلى عالم حيث الفهم وهم، وحدود الواقع تلاشت مثل الدخان.

في النهاية، ربما كان هذا هو الجوهر الحقيقي لدوار الأرجوحة - لتذكيرنا أنه في الكون الشاسع للوجود، هناك ألغاز لا يمكن حلها أبدًا، وتجارب لا يمكن فهمها أبدًا، وعوالم للعقل حيث الحدود العقل طمس في السريالية وغير المفهوم.


0 التعليقات: