الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أكتوبر 03، 2023

الشاعر الذي مزقته قصيدته الوحيدة: عبده حقي


في بيته الغريب المنسي بين الفروع العقدية للأشجار الشائخة ، عاش هناك شاعر منعزل يدعى إليسيان. لم يكن مثل أي شاعر آخر في العالم؛ لقد كان مقيدًا بلعنة خارقة للطبيعة ابتليت بها عائلته لأجيال عديدة . كانت اللعنة بسيطة لكنها مدمرة: في كل مرة يكتب قصيدة، كان تمزق جسده قوة شظايا كلماتها.

كان وجود إليسيان بمثابة عزلة أبدية. يعيش في ردم قصر على أطراف المدينة، حيث تسيطر نباتات اللبلاب على الجدران المتصدعة . كانت نوافذه مغطاة بستائر مخملية سميكة تمنع الهواء الخارجي من الدخول. في عزلته، كرّس أيامه للتأمل المديد ، يسير في الممرات ذات الإضاءة الخافتة، باحثًا عن الإلهام دون أن يكتب بيتًا واحدًا.

لسنوات عديدة ، قاوم إليسيان الرغبة في الكتابة، خوفًا من العذاب الذي كان يتبعها دائمًا. لكن روحه كانت صحراء قاحلة، تتوق إلى مياه الإبداع الواهبة للحياة. لقد استسلم لحياة بلا تعبير، كقوقعة جوفاء.

في إحدى الأمسيات الرمادية، عندما غمر نور القمر القصر بتوهجه الغريب، عثر إليسيان على مكتبة مغبرة منسية منذ فترة طويلة مخبأة في أعماق قصره المنسي . ومن بين المجلدات المغطاة بنسيج العنكبوت، اكتشف كتابًا غامضًا مُغلفًا بالجلد الكستنائي. كان غلافه مزينًا بشعار مزخرف معقد بدا وكأنه ينبض بطاقة من عالم آخر.

همس له الكتاب بأسرار، أسرار عوالم منسية وكلمات يمكن أن تربطه بالكون نفسه. تردد إليسيان، لكن جاذبية الكتاب كانت لا تقاوم. فتحه، وأرسلت الكلمة الأولى التي قرأها قشعريرة كهربائية في جسده . تدفقت الكلمات من الصفحات مثل نهر من ضوء القمر السائل، وكان إليسيان عاجزًا عن مقاومة جذبها.

بدأ في الكتابة، وكل كلمة تتشكل دون عناء، كما لو كانت تقودها يد خفية. كانت الأبيات أثيرية وسريالية، ترسم صورًا حية لمناظر الأحلام والعوالم الغامضة. بدا أن الهواء في الغرفة ينبض بطاقة غريبة وخارقة للطبيعة بينما كان يكتب، وشعر إليسيان بأنه يفقد السيطرة، ويستسلم لقوة الكلمات.

عندما انسكب المقطع الأخير من يده المرتجفة، تمزق إليسيان. ليس بالمعنى الجسدي، بل في أعمق أعماق كيانه. تحطمت روحه إلى ألف شظية، كل جزء منها يمثل وجهًا من وجوه جوهره، وكل جزء قصيدة منفصلة، وكل جزء كون في حد ذاته.

اختفى قصر إليسيان، ووجد نفسه ينجرف في مشهد سريالي دائم التغير من صنعه. ولم يعد مجرد شاعر؛ لقد كان تجسيدا للشعر نفسه، شعرا حيا يتنفس. لقد انتقل عبر عوالم الخيال الخالص، مستكشفًا حدود الواقع واللاواقع.

أصبح الوقت مفهومًا لا معنى له، وكان إليسيان موجودًا في حالة دائمة من النعيم الإبداعي. كان يرقص بالكلمات، ويرسم بالاستعارات، ويغني بسيمفونية أفكاره. لقد كان شاعرًا وقصيدًا وكيانًا خارقًا للطبيعة نشأ من جوهر فنه.

وهكذا، في قلب هذا الكون السريالي الذي لا حدود له، وجد إليسيان نفسه الحقيقية. لقد دفع الثمن النهائي لفنه، ولكن بقيامه بذلك، أصبح شيئًا أعظم من مجرد فانٍ، شيئًا خارقًا للطبيعة وأبديًا. لقد تمزقت قصيدة واحدة الشاعر، ليولد من جديد كروح الشعر نفسه، ضائعًا إلى الأبد في متاهة كلماته.

0 التعليقات: