الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، فبراير 07، 2024

قصيدة كعنق الزرافة : عبده حقي


برج أفعواني أنيق، يمتد إلى الأثير، ويتجاوز حدود العالم. أصبحت هذه الزرافة، الخرافية التي تجمع بين العجب والغموض، هي الصهوة الجامحة لتأملاتي الشعرية.

هي تطلعاتي .. استشرافي .. طموحي .. هي ذلك الجمر الذي لا يخبو والذي يسري في عروق الحالمين، ينعكس في الصورة المتطاولة لعنق الزرافة. تمد رقبتها بجوع لا يشبع، ليس لشلال أوراق الصفصاف المتدلية ، بل إلى الآفاق المراوغة التي تتراقص على هامش نظرتها . إنني أرى في خرائط بقعها البنية المعقدة كويكبات متطلعة، خريطة سماوية رسمتها أهواء الطموح.

أجد نفسي تحت ظل هذا العنق الشاهق مثل نخلة مزهوة ، كاتبا خديما في بلاط الزرافات. قلمي، أداة لاستحلاب الكلمات، يتراقص فوق الرق على إيقاع نبضات أحلام عنق الزرافة. إنها تقرأ كلماتي، ليس بحكمة العلماء أو نقد الأقران، ولكن بالحكمة المتخفية لمخلوق يعرف لغة الصمت عن كثب.

أحيانا توبخني الزرافة، رفيقتي في متاهات الوجود. يتردد صدى توبيخها في الفضاء الشاسع لذهني، ويتردد مع الصوت الأجوف للسانحات الضائعة. يبدو الأمر كما لو كانت تقول لي : "يا لقصر بصرك"، كما لو أنها كانت تعاتبني على قصر النظر الذي يربطني بالدنيوية. في دوامات تشكيل فرائها، أتبين أسرار الصبر، وفضيلة انتظار الانكشاف البطيء للقدر.

وأنا أيضاً مخلوق من مخلوقات هذه الأرض، مقيد بجاذبية الفطرة السليمة . ومع ذلك، تقودني زرافتي إلى عالم التجريد، حيث يذوب الملموس في لغز الزوال . وهنا أكتب قصائدي، وأصيغ أبياتًا من البحر الطويل تتناغم مع سموق عنق الزرافة. أتخلى عن أصفاد التعبير المتقادم، وأعتنق الحرية التي تأتي مع مد رقبتها الأدبية نحو المجهول.

في مسرح ذهني، تصبح الزرافة رمزًا للتحدي، والتمرد ضد ما هو تقليدي. إنها ملهمتي التي تهمس بلغة السريالية، وتحثني على أن أرسم لوحة الكلمات بألوان لا تراها العيون. معًا، أنا والزرافة نجتاز عراقيب العبث، حيث المنطق والعقل مجرد أصداء واهنة في اتساع الخيال.

الترقب، تلك الرقصة المثيرة مع المستقبل، تأخذ معنىً جديداً في حضور صهوة الزرافة. نقف على شفا المجهول، والغامض ، وننظر في ضباب ما لم ينكشف بعد. تصبح رقبة زرافتي سارية للتكهن والاستشراف، تشير نحو الخيوط غير المرئية التي تنسج القدر. في نظرتها الممتدة، الطويلة أجد انعكاس حنيني إلى ما بعد الأفق.

وبينما كنت أكتب أشعاري، أدركت أنني لست وحدي في هذه الرحلة السريالية. زرافتي، برقبتها التي تخترق ستائر وقتي العادي، أنيسة صامتة. إنها تأخذني نحو عوالم حيث الكلمات ليست مجرد أوعية للمعنى، بل أوعية للتعالي. معًا، نبحر في متاهة العبثية، والتجريد تاركين وراءنا حوافر أقدام تتحدى القيود الخطية لرواية القصص التقليدية.

وهكذا، في الرقص على الحبل بين الملموس والمجرد، الزرافة وأنا نخلق معا لوحة من نبرات العبارات والرسم بالكلمات . إنها لحن يتردد مع أصداء الأحلام .. تركيب يتجاوز حدود الفهم.

زرافتي، ملهمتي الصامتة، تواصل قراءة قصائدي بعيون ترى ما هو أبعد مما نرى، بحكمة تتجاوز الحدود الدنيوية.

وبينما أستلقي على العنق الشاهق لراحلتي الزرافة، أدرك أن المعنى الحقيقي لا يكمن فقط في تصفيف الكلمات، بل في التواصل السحري الصامت بين الملموس وغير الملموس. تصبح رقبة الزرافة كناية عن الإمكانيات اللامتناهية التي تمتد إلى فضاء المجهول الشاسع، لوحة أرسم عليها الأحلام التي تتراقص في ظلال الترقب.

0 التعليقات: