الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أبريل 16، 2024

مكاشفات: (6) عبده حقي


100

لقد شرعا معًا في رحلة اكتشاف، واستكشفا أعماق ارتباطهما بحماسة ولدت من العاطفة المكتشفة حديثًا. وفي أحضان بعضهما البعض، وجدا ملاذًا، ملاذًا من فوضى العالم الخارجي حيث يمكنهما الاستمتاع بجمال وجودهما المشترك.

101

بابتسامة واحدة، فتح باب قلبها، وأطلق بوابات المشاعر التي كانت محتجزة منذ فترة طويلة. وبينما كانا يقفان معًا، يدًا في يد، أدركت أنها وجدت فيه ليس فقط حبيبًا، بل أيضًا صديقًا مقربًا وشريكًا في مغامرة الحياة الكبرى.

102

وفي وسط العاصفة، وقفت مظلة منسية كمنارة ملجأ. لقد كانت شيئًا مهملًا، ضائعًا في صخب الحياة وضجيجها، ومع ذلك فقد وجد هدفًا في التخلي عنه. لقد أصبحت ملجأً، ملاذًا للغرباء الذين وقعوا في العاصفة.

103

لقد كنت هناك، مراقبًا صامتًا، أشهد هذا العمل اللطيف الذي جاء بالصدفة. كانت المظلة بمظلتها الواسعة تحمي الغرباء من هجمة المطر

المتواصلة. لقد كانت عملاً صغيرًا، ولفتة بسيطة، لكنه كان يحمل أهمية عميقة.

104

وتجمع الغرباء تحت المظلة، وكانت وجوههم محفورة بأسارير الارتياح والامتنان. لقد وحدتهم الظروف، وربطتهم تجربة مشتركة. هبت العاصفة من حولهم، لكن تحت المظلة، وجدوا لحظة من الراحة، فترة راحة قصيرة من شغب الفوضى.

105

علمتني المظلة في وقفتها الصامتة درسا. لقد أظهرت لي أنه يمكن العثور على اللطف في أكثر الأماكن غير متوقعة، في الأشياء الأكثر عادية. لقد ذكرني أنه حتى في أوقات الاضطرابات، هناك جيوب من السلام، ولحظات من العزاء.

106

وهكذا كانت المظلة المنسية تحمي الغرباء من العاصفة. لقد كانت لفتة من اللطف، وشهادة على روح الرحمة الدائمة. وأنا، المراقب الصامت، تأثرت بالنبل الهادئ لهذا الفعل، وتأثرت بقوة اللطف اللطيفة.

107

أنا قماش الإسفلت، أنا الملساء بلمعان المطر المنسي. في الأعلى، العمالقة المعدنية تحتجز شظايا من الشمس، وتلقي ضوءًا متكسرًا على سطحي. في هيمنتهم الشاحبة، يلوي العالم. تمتد المباني مثل الأصابع ، وتخدش السماء البنفسجية التي جرحها جمر النهار المحتضر.

108

الظلال – هؤلاء هم سكان المدينة الحقيقيون. إنهم يتلوون ويلتفون، كأشباح باليهية منسوجة من غياب الضوء. يتحول عمود الإنارة الطويل إلى موصل هيكلي، حيث تملي ذراعه الممدودة تصاميم الرقصات. تمر قطة ضالة، تاركة بقعة حبر عابرة في أعقابها.

109

السيمفونية نفسها عبارة عن نشاز من الهمسات. أنين المركبات غير المرئية، وتهويدة صفارات الإنذار البعيدة، والنقر الإيقاعي للكعوب غير المرئية. تتسرب إلى الشقوق، إلى مسام المدينة، لغة لا يفهمها إلا الظلال. 

110

أصير واحدًا معهم، كيانًا لا شكل له يمتزج مع المحلاق الحبري. نحن نتدفق حول كاحلي الشخصيات المتسارعة، وننسج سردًا صامتًا لمرورهم. رجل أعمال، والحقيبة رفيقته الدائمة، وظله مخلوق منحني قلقا يعكس مخاوفه. زوجان شابان، تتشابك ظلالهما، في لحظة عابرة من الحنان قبل أن يبتلعهما الحشد.

111

تتصاعد السيمفونية مع إيغال الليل. تنزف لافتات النيون ألوانها المبهجة، مما يؤدي إلى تلطيخ الهواء بتوهج سام. ترتد الظلال، وتتأرجح الدمى المتحركة الغريبة على خيوطها. يظهر عازف ساكسفون وحيد من أحد الأزقة، ولحنه الحزين يتناغم مع همهمة المدينة الميكانيكية. نحن الظلال نرقص على لحنه، باليه اليأس المروع.

112

ثم صمت مفاجئ. رحل عازف الساكسفون، وصدى موسيقاه يتلاشى. تتنهد المدينة، عملاق متعب يتحرك في نومه. تتجمع الظلال على مقربة، ونسيج متناثر يتجمع في مواجهة البرد الزاحف. نحن جميعًا بقايا، منبوذين من اليوم، نتوق إلى الظلام الذي لا يأتي أبدًا.

113

حتى في غياب الضوء، تنبض المدينة بطاقتها غير المرئية. مليون دراما صغيرة تتكشف تحت السطح، أسرار هامسة ورغبات غير معلنة. نحن، الظلال، الشهود الصامتون، مرتبطون إلى الأبد بهذه الغابة الخرسانية، نرقص إلى الأبد على أنغام سمفونيتها الصامتة.

114

في سمفونية الألحان الصامتة لست سوى شبح عابر، ينجرف وسط أسرار التغيير الهامسة. كل ورقة، هي وعاء هش للزمن، تحمل في داخلها أصداء الفصول الماضية التي لا تعد ولا تحصى، وهي شهادة على رقصة التحول التي لا هوادة فيها.

115

في هذا العالم الأثيري، حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والأحلام، أجد نفسي متورطًا في حضن الخريف الرقيق. الهواء مثقل برائحة الحنين، مزيج من الذكريات والرغبات المنسية.

116

بينما أعبر مسارات متاهة عقلي، ترافقني لازمة الأوراق المؤلمة، وهمهماتها لغة غامضة لا يتحدث بها إلا أولئك الذين يرغبون في الاستماع. يتحدثون عن لحظات عابرة وحب ضائع، وعن آمال تتحطم على شواطئ الواقع الصخرية.

117

ومع ذلك، وسط هذه السيمفونية الكئيبة، هناك أيضًا همس بالاحتمال، وبصيص خافت من الضوء وسط الظلام الزاحف. لأنه في كل نهاية تكمن بذور بداية جديدة، وهي فرصة لإعادة اختراع الذات في نسيج الوجود المتغير باستمرار.

118

وهكذا أحتضن الجمال الزائل لأوراق الخريف، مما يسمح لهمساتها بأن تحملني بعيدًا في رحلة لاكتشاف الذات. لأنني أجد في حفيفهم اللطيف العزاء والإلهام، وتذكيرًا بأن التغيير لا ينبغي الخوف منه، بل يجب احتضانه كجزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية.

119

سرت رعشة في سقالات عظامي، وهاجس محفور في جوف صدري. وفي الأسفل توجد شبكة الأمان ــ فوضى متشابكة من الشك، منسوجة بخيوط "ماذا لو" و"يجب أن يكون".


 

0 التعليقات: