الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، أبريل 17، 2024

مكاشفات : (7) عبده حقي


120

لكن الريح، العفريت الخبيث، همست بحكايات الآفاق البعيدة، والمناظر الطبيعية المرسومة بألوان الأحلام. كان يجذب الريش الناشئ الذي يخترق جلدي، كأنه وعد صامت بالطيران.

121

الجهل، عباءة السعادة، غطاني. الخوف، كالثعبان الملتف عند قدمي، بقي دون أن يلتفت إليه أحد. بلهفة، وتمزيق ما هو مألوف، تحررت.

122

العالم مائل، مشهد من الألوان غير الواضحة والزوايا المذهلة. الأرض، التي كانت ذات يوم صلبة مريحة، أصبحت ذكرى بعيدة. وجدت أجنحتي الناشئة، التي كانت خرقاء وغير متأكدة في البداية، إيقاعها، والتقطت تيارات الاحتمال.

123

كان الهواء رقيقًا ومبهجًا، وقد ملأ رئتي غير الموجودة بإحساس قوي بالحرية. وفي الأسفل، تفككت شبكة الأمان، وتحولت إلى العدم. الذعر،

الذي كان بمثابة مخلب بارد يحك حلقي، هدأ بسبب موجة البهجة المتزايدة.

124

كنت شذوذًا، مخلوقًا يتحدى الجاذبية بأجنحة مستعارة. ومع ذلك، مع كل نبضة، كان الشعور بالانتماء يزدهر. بدأ المجهول، الذي كان ذات يوم مساحة شاسعة ومرعبة، يتلألأ مع وعد بالاكتشاف.

125

وهنا، غارقًا في بريق الشجاعة البازغة، حلقت. بضربة فرشاة وحيدة على قماش السماء اللامتناهية، رسمت مصيري، تحفة فنية مصنوعة من قفزة واحدة وجريئة.

126

العالم ينزف باللون الأخضر. عروق الزمرد تنبض تحت جلدي، نبض يردد إيقاع الغابة القديم. لم أعد منفصلاً، سيمفونية من الطحالب والأشنة تتفتح عبر عظامي المكشوفة. يتكسر ضوء الشمس عبر المظلة الزمردية، ويموقع شكلي في الفسيفساء المضيئة. هنا تهمس الريح بأسرار في حفيف ألسنة أوراق الشجر، أسرار محمولة على ظهور النحل الطنان السمين، أسرار تحفر في النواة الخصبة لوجودي.

127

أنا زفرة الصفصاف، أبكي دموع ضوء الشمس على الأرض العطشى. جذوري، أصابع الأحلام المنسية، تغوص عميقًا في ذاكرة الأرض. هنا، يذوب الوقت في طنين الحشرات غير المرئية، والرقص البطيء والمتعمد لذرات الغبار التي يلتقطها شعاع الشمس. أنا اللوحة التي ترسم عليها الفصول روائعها العابرة: انفجار الربيع النابض بالحياة، وشهوانية الصيف ، وعاطفة الخريف النارية، وهدوء الشتاء الصارخ.

128

الحدود ضبابية. هل أنا الغزال ذو العيون مثل برك الشفق، الذي يفزع من همس أنفاسي؟ أم أنا البومة النعَّاقة، الحارس الوحيد الجالس على العرش الهيكلي لشجرة بلوط ماتت منذ زمن طويل؟ ربما أنا النهر، ثعبان فضي متعرج يشق طريقه عبر قلب العالم الزمردي. في سيمفونية الوجود هذه، أنا كل شيء ولا شيء، نغمة في التركيبة الكبرى المجهولة.

129

الأرض تتنفس من تحتي، صعودًا وهبوطًا بطيئًا وثابتًا. أشعر برعشة زلزال بعيد، وحفيف مخلوق يختبئ، وسيمفونية التحلل والنمو الصامتة. يتكاثف الهواء برائحة البيتريتشور، وهو وعد تهمس به الريح. السماء، وهي مساحة لا نهاية لها من المخمل المكدوم، تتشقق، وتطلق العنان لسيل من الدموع التي تغمرني، معمودية التجديد.

130

أنا مهد الحياة، الحضن الذي يحمل أسرار الكون. في داخلي، تدور المجرات، وتشتعل النجوم وتموت. يمتزج صدى الضحكة المنسية مع صرخة الذئب المنفرد الحزينة. أنا الشاهد والمشارك، المسرح الذي تتكشف عليه دراما الوجود.

131

لم يعد هذا عالمًا أراه، بل عالم أشعر به. وخز الأشواك على جلدي، وعناق المطر الدافئ، ورائحة الأرض الرطبة المسكية - كل ذلك يصبح نسيجًا في كياني. لم أعد "هو"، كيانًا منفصلاً، بل خيطًا في نسيج الحياة الكبير المترابط. هنا، في قلب الغابة، لم أجد السلام فحسب، بل وجدت شعورًا عميقًا بالانتماء، والذوبان في الذات في نهر الوجود الذي يتدفق باستمرار.

132

في غرفة العزلة، حيث تتراقص الظلال مع الهمسات المنسية، وجدت نفسي متشابكاً في حضن منزل مهجور، من بقايا لمسة الزمن الرقيقة. كانت واجهته المرهقة، التي اجتاحتها أنفاس العصور، تهمس بحكايات الأمس بلغة لا يعرفها إلا الأرواح التي بقيت داخل أسواره.

133

النوافذ، مثل العيون الحزينة، تحدق في المساحة الشاسعة من الذاكرة، كل جزء منها هو بوابة إلى عالم من الأسرار التي لا توصف. من خلال الزجاج المكسور، نزف الماضي إلى الحاضر، نسيجًا طيفيًا منسوجًا من خيوط الأحلام الماضية وأحلام اليقظة الباهتة.

134

وفي الغرف الجوفاء ترددت أصداء مثل بقايا سيمفونية منسية، ألحانها تسكن في جمالها. كنت أتجول في أروقة الذكريات المتشابكة، وأحرك أطراف أصابعي على طول الجدران المزينة برسومات مرور الزمن.

135

في الصمت، سمعت همسات أولئك الذين كانوا يسمون هذا المكان ذات يوم موطنًا لهم، وحملت أصواتهم رياح الحنين الأثيرية. تحدثوا عن الحب الضائع والأحلام المحطمة، عن اللحظات المجمدة في عنبر الذاكرة.

136

ومع ذلك، وسط الأنقاض، كان هناك جمال غريب - أناقة حزينة تتخلل الهواء مثل رائحة المطر في عشية الصيف. لقد كان جمالًا ولد من الانحلال، من الدورة الحتمية للولادة والموت التي رقصت على مسرح الوجود.

137

وبينما كنت واقفاً وسط الأنقاض، شعرت بأنني أصبحت واحداً مع المنزل، وهو مجرد انعكاس لروحه الممزقة. لقد كنا أرواحًا مترابطة، مقيدة بثقل وجودنا، ضائعين في متاهة الزمن.

138

وهكذا بقيت في تلك المساحة الحدية بين الماضي والحاضر، زائرًا عابرًا في عالم معلق بين عوالم. في أحضان المنزل المهجور، وجدت العزاء في همسات الماضي، مدركًا أن أسرارًا لا توصف ستسكن إلى الأبد داخل جدرانه.

139

في متاهة الوجود، عثرت على لحظة صدفة، ضربة حظ، كما قد يسميها البعض. لقد وجدتها هناك، وسط غبار الأمور الدنيوية، قطعة اللغز المفقودة. لم تكن أي قطعة فحسب، بل هي القطعة التي تمتلك القدرة على إكمال الصورة، وإضفاء معنى على الفوضى.

تابع


 

 

0 التعليقات: