الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أبريل 18، 2024

مكاشفات: (8) عبده حقي

 


140

كان العالم من حولي عبارة عن أحجية، عدد لا يحصى من الأجزاء، كل منها يحمل سرًا وقصة. كنت متجولًا في هذا الفضاء الشاسع، أبحث، وأبحث دائمًا. القطعة التي وجدتها لم تكن غير عادية، ليس للوهلة الأولى. لقد كانت صغيرة، تافهة، ضائعة بين مخلفات الحياة. لكنه كان المفتاح، النغمة الأخيرة في السيمفونية، الضربة الأخيرة لتحفة فنية.

141

عندما أمسكت به في يدي، شعرت بموجة من العاطفة. كان الأمر كما لو أن الكون تآمر ليوصلني إلى هذه اللحظة، إلى هذا الاكتشاف. كانت القطعة باردة، وحوافها حادة، في تناقض صارخ مع دفء يدي. لقد كان رمزًا، استعارة لازدواجية الوجود: النور والظلام، الفرح والحزن.

142

وضعت القطعة في مكانها الصحيح، وعادت الصورة إلى الحياة. ولم تعد مجموعة مفككة من الأجزاء، بل أصبحت كلاً متناغمًا. كانت الصورة التي شكلتها مجردة وسريالية، وهي انعكاس للعالم كما يُرى من خلال عدسة ذهني. لقد كان مشهدًا من الأحلام والكوابيس، من الآمال والمخاوف، من الحب والخسارة.

143

كانت الصورة كاملة، لكنها لم تكن النهاية. لقد كانت بداية، فصلاً جديداً في كتاب الحياة. كان اللغز عبارة عن مرآة، لا تعكس وجهي فحسب، بل روحي أيضًا. لقد كان بمثابة تذكير بالرحلة، بالتجارب والمحن، بالانتصارات والهزائم. لقد كان ذلك بمثابة شهادة على صمود الروح الإنسانية، وعلى قوة الأمل والمثابرة.

144

في المخطط الكبير للأشياء، كانت قطعة اللغز غير ذات أهمية. ولكن بالنسبة لي، كانJ كل شيء. لقد كانت منارة في الظلمة، ومرشدًا في البرية، ورفيقًا في الوحدة. لقد كان رمزا للأمل، ووعدا بغد أفضل. لقد كانت شهادة على قوة الروح الإنسانية، وعلى الإرادة التي لا تقهر والتي تكمن داخل كل واحد منا.

145

وهكذا، مع اكتمال الصورة، وجدت قطعة من نفسي. لقد وجدت الشجاعة لمواجهة المجهول، والقوة للتغلب على الشدائد، والحكمة لاحتضان التغيير. لقد وجدت متعة الاكتشاف، وتشويق المغامرة، وسلام القبول. لقد وجدت جمال اللحظة، وسحر العادي، وعجب ما هو غير عادي.

146

وفي النهاية، لم تكن قطعة اللغز مجرد قطعة من الورق المقوى. لقد كانت قطعة مني، قطعة من الكون، قطعة من الإلهي. لقد كان بمثابة تذكير بالترابط بين كل الأشياء، وبالرقصة الكونية بين الخلق والدمار، وبالدورة الأبدية للولادة والموت. لقد كان رمزًا للإمكانات اللامحدودة التي تكمن داخل كل واحد منا، والإمكانيات اللامحدودة التي تنتظرنا.

147

وهكذا، وبضربة حظ، عثرت على قطعة اللغز المفقودة، لتكتمل الصورة. ولكن أكثر من ذلك، وجدت قطعة من نفسي، قطعة من الكون، قطعة مما هو رباني. وفي تلك اللحظة، أدركت أننا جميعًا قطع من نفس اللغز، وكلنا جزء من نفس الصورة، وكلنا جزء من نفس الرقصة الكونية. وهذا بحد ذاته معجزة.

148

لمع أمامي حجاب من ستار الفضة السائلة، وكان سطحه عبارة عن دوامة من الاحتمالات. الفضول، كالثعبان البدائي، المنفتح داخل أحشائي، يحثني على الاقتراب أكثر. مددت يدي بتردد، ومسحت بأطراف أصابعي الطائرة الباردة المتلألئة. لقد تحطم الواقع، وتحول العالم الذي عرفته إلى مشهد من التألق غير المنطقي.

149

لقد اختفت الجدران المألوفة، وحلت محلها لوحة قماشية متناثرة بألوان مستحيلة. تمايلت الأشجار ذات أوراق بضوء القمر المغزولة في الريح التي غنت ألحانًا غير مسموعة. كانت مخلوقات الفكر النقي، الشفافة والمتغيرة باستمرار، تطير في الهواء، ويتردد صدى همساتها في كهوف ذهني. الجاذبية، المفهوم المنسي، لم يكن لها أي تأثير هنا. تتحدى المباني المنطق، وتتحدى قوانين الفيزياء ذاتها بزوايا وسلالم مستحيلة تتصاعد إلى السماء التي لا نهاية لها.

150

بدا الزمن نفسه وكأنه ينحني ويلتوي، وتمتد اللحظات إلى الأبد، والثواني تنبض بقوة ألف حيوات. كان الضحك، المفرح والمرعب في نفس الوقت، يتردد صداه من زوايا غير مرئية، سيمفونية من المشاعر تعزف على آلات غير مرئية، وغير مسموعة، ومع ذلك محسوسة بعمق.

151

لقد كانت تتعثر في جحر الأرانب، تجرفها الأمواج في بحر من المنطق المستحيل. ومع ذلك، وسط هذه الفوضى، نشأ شعور غريب بالسلام. هنا، كان العقل إلهًا منسيًا، وحلت محله القوة المسكرة للخيال الخالص. كل فكرة اتخذت شكلاً، وكل رغبة تجلت في المشهد المتغير باستمرار.

 152

ولكن مع العجب جاء القلق الزاحف. أصبحت الحدود بين الذات والعالم غير واضحة، وتلاشى التمييز بين المراقب والمشارك في مواجهة هذا الإبداع اللامحدود. هل كنت أنا الحالم أم الحلم نفسه؟ سجين في ملعب من صنعي؟

153

الخوف، يد باردة تجتاحني، هددت بسحبي إلى الخلف. ومع ذلك، أشعلت شرارة التحدي في داخلي. هنا، في هذا العالم الذي يتجاوز الخيال، كنت غير مقيد بقيود المعلوم. كان هذا عالمًا حيث يمكنني أن أكون أي شيء، كل شيء، أرقص مع جوهر الخلق نفسه.

154

وبأنفاس مرتعشة، تقدمت إلى الأمام، واحتضنت المجهول. كان العالم يتلألأ، ويرحب بي في أحضانه المتغيرة باستمرار. لقد أصبحت المرآة، التي كانت في السابق حاجزًا، بوابة، وأنا، المستكشف المستعد، غامرت بالدخول إلى عالم العجائب الذي لا حدود له.

155

المفتاح المنسي، بقايا أحلام صدئة، يرقد في راحة يدي، وثقله عبء ونعمة. بأصابع مرتعشة، قمت بتتبع معالم سطحه الذي تعرض للتجويف، وشعرت بصدى عدد لا يحصى من الأيدي التي أمسكت بشكله البالي.

156

في الضوء الخافت للمنزل المهجور، بحثت عن القفل الذي كان ينتظر رفيقه المفقود منذ زمن طويل، وهو بوابة إلى العوالم المجهولة التي تقع خلفها. كل باب، عتبة للاحتمال، همس بوعود بالأسرار المكشوفة والحقائق المكشوفة.

157

وبنفس متردد، أدخلت المفتاح في قفل الانتظار، وشعرت بالمقاومة تفسح المجال بنقرة خفيفة ترددت أصداؤها عبر الممرات الصامتة. انفتح الباب على مفصلات صامتة، ليكشف عن ممر إلى أعماق المجهول.

158

عندما خطوت عبر العتبة، شعرت بتحول في نفسي - إعادة تنظيم دقيقة للهدف والإدراك. رحلة اكتشاف الذات المنتظرة، ملحمة متاهة عبر أروقة روحي.

159

كانت كل خطوة إلى الأمام بمثابة خطوة إلى الداخل، وهبوطًا في متاهة رغباتي ومخاوفي. رقصت الظلال على الجدران، وألقت أوهامًا تعكس تعقيدات المشهد الداخلي الخاص بي.

تابع


 

0 التعليقات: