الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، يونيو 28، 2024

نص سردي "في متاهات اللامشروط" عبده حقي

 


يمتد الأفق إلى ما لا نهاية .. نسيج من الألوان الغامضة، ونحن نجتاز عالم الأحلام هذا بحثًا عن ما لا يمكنني وصفه. تحت القبة الزرقاء، نتجول في غابات من الأشجار البلورية، تغني أغصانها سيمفونيات من ضوء. تتراقص الظلال مع الذكريات المنسية، وتومض من الوجود وتختفي، كما لو كان الماضي والمستقبل منخرطين في رقصة الفالس الأبدية.

في وادٍ حيث الأرض متسربلة من همسات حريرية، كنا نواجه أول الكائنات. إنه كرة من ضباب قزحي الألوان، ينبض بإيقاع غريب. نقترب بإجلال، وقلوبنا تتوق إلى اللامشروط، ولكن أيدينا لا تمسك إلا بالبخار. يذوب الجرم السماوي ويتحول إلى ألف فراشة، تهمس أجنحتها بأسرار لا نستطيع فهمها. الجمال الزائل باقي في أذهاننا، وهو تذكير بسعينا المتواصل.

وعلى طول الطريق، ندخل في متاهة من المرايا، كل منها يعكس جانبًا مختلفًا من أرواحنا. بعض المرايا تظهرنا كما نحن، والبعض الآخر كما كنا، والبعض الآخر كما قد نكون. كل انعكاس هو شيء، جزء من كوننا محاصرين في صناديق من الزجاج الشفاف . نمد أيدينا، آملين أن نندمج مع هذه التأملات، لنتجاوز الواقع المشروط، لكن أصابعنا تلامس الأسطح الباردة، فلا يبقى منها سوى اللطخات والتنهدات.

وفي قلب المتاهة نجد مرآة لا تظهر لنا وجوهنا، بل فراغًا لا حدود له. كنا نتكئ وننجذب إلى عالم يمكن أن يسكن فيه كل كائن اللامشروط. لكن الفراغ يمتلئ بالأصداء، أشياء نسيناها، أشياء لم نكتشفها بعد. إنها تحوم حولنا، مراوغة ومثيرة، ولا تسمح لنا أبدًا بفهم جوهرها.

بعد خروجنا من المتاهة، صرنا نبحر في محيط من الزمن السائل. الأمواج لحظات، تعلو وتهبط، كل قطرة منها ذكرى أو حلم. البحر لا حدود له، وهو يعكس السماء في مشهد من الاحتمالات. نلقي شباكنا، آملين أن نصطاد اللامشروط في تيارات الزمن، لكن شباكنا تعود محملة بالأشياء: بقايا الماضي، وشظايا المستقبل، وأجزاء من الآن.

في الأفق، تتلألأ منارة، يخترق شعاعها حجاب الزمن. كنا نسير نحوها، مسترشدين بالأمل في أنها قد تنير الطريق إلى اللامشروط. ولكن عندما اقتربنا، رأينا المنارة مبنية من رغباتنا ومخاوفنا، ونورها كان سرابا من صنعنا. نرسو على الشاطئ، مثقلين بالأشياء التي جمعناها، ولكننا فارغون من الجوهر الذي كنا نسعى إليه.

ومن بعيد تلوح في الأفق مدينة تصل أبراجها إلى السماء. هذه هي مدينة الصمت، حيث لا صوت، والهواء مثقل بالترقب. نسير في شوارعها بهدوء، ولا تترك خطواتنا أي صدى على إسفلتها. السكان كانوا ظلالا، يتحركون في تناغم صامت، كل واحد منهم هو مجرد شيء، مظهر من مظاهر ما هو غير معلن.

وفي قلب المدينة نجد مكتبة ذات رفوف لا نهاية لها. كل كتاب هو حياة، مكتوبة بالحبر غير المرئي. نفتحها، على أمل أن نقرأ ما هو غير مشروط، لكن الصفحات تكشف أشياء فقط: كلمات وجمل، قصص وحقائق، كلها محصورة ضمن حدود اللغة. الصمت يضغط علينا، ثقيلًا وعميقًا، عندما ندرك أنه حتى في عالم الهدوء هذا، فإن اللامشروط صار يراوغنا.

خلف المدينة توجد حديقة تنمو فيها الأحلام مثل الزهور. كل إزهار هو شيء، رؤية لما يمكن أن يكون أو ما يمكن أن يكون. الهواء معطر بالاحتمالات، ونحن نتجول بين الصفوف، نقطف الأحلام مثل الفاكهة. نأكلها ونتذوق حلاوتها، لكنها تتركنا أكثر جوعًا من ذي قبل.

وفي وسط الحديقة شجرة من نور تمتد أغصانها إلى ما وراء السماء. نتسلقها، وكل خطوة تقربنا من النجوم. وفي قمة الشجرة نجد زهرة واحدة كاملة. إنه يتوهج بإشعاع داخلي، منارة للغير مشروط. نمد أيدينا لنلمسها، ولكن عندما تلمس أصابعنا بتلاتها، فإنها تتحلل إلى غبار النجوم، وتنتشر الأشياء عبر السماء.

نسافر عبر صحراء حيث الرمال عبارة عن حبيبات من الرغبات المنسية. كل كثيب هو شيء، نصب تذكاري لرغبات لم تتحقق. تتدلى الشمس منخفضة، وتلقي بشلال ظلالها الطويلة التي تهمس بأسمائنا. نحفر في الرمال، على أمل أن نكشف عن اللامشروط المدفون تحتها، لكن أيدينا لا تنبش إلا عظام الأحلام الضائعة وشظايا الآمال المكسورة.

وفي قلب الصحراء كنا نجد واحة فيها الماء سائل الذاكرة. نشرب بتعطش عميق، على أمل أن نروي عطشنا إلى اللامشروط. لكن الذكريات تغمر أذهاننا بصور الأشياء الماضية، واللحظات التي عشناها وفقدناها، والأحباء التي وجدناها والتي تركناها. يتركنا الماء عطشى، مشتاقين إلى نقاء لا نستطيع تسميته.

قادنا طريقنا إلى جبل، يكتنف الضباب قمته. هذا هو جبل الأصداء، حيث يتردد صدى كل خطوة عبر الزمان والمكان. نتسلق، وأنفاسنا تمتزج مع الريح، حاملة همسات مما قيل وما لم يُقال. كلما صعدنا إلى الأعلى، كلما أصبحت الأصداء أكثر وضوحًا، نشازًا للوجود.

وفي القمة وجدنا معبداً منحوتاً في قلب الجبل. في الداخل، يتردد صدى نغمة واحدة، نقية لا تنتهي. جلسنا لنتأمل، ونسمح للصوت بأن يملأنا، على أمل أن يذيب الأشياء التي تربطنا بالعالم المشروط. لكن النغمة، رغم جمالها، تظل شيئًا، صوتًا مقيدًا بقوانين التناغم والتنافر.

عند نزولنا من الجبل، تتبعنا نهرًا يتدفق باحتمالات لا نهاية لها. كل تموج هو اختيار، وكل تيار هو مسار غير مسلك. نخوض في الماء، ونتركه يحملنا نحو المجهول. النهر مليء بالأشياء: القرارات المتخذة وغير المتخذة، والمستقبل الذي تتم رؤيته والتخلي عنه. نمد أيدينا محاولين الإمساك بما هو غير مشروط ضمن التدفق، لكن أيدينا تغلق على الاحتمالات الفارغة، وتنزلق من بين أصابعنا مثل الماء.

يقودنا النهر إلى شلال يتدفق في الفراغ. نقف على حافته، محدقين في الهاوية، متسائلين عما إذا كان اللامشروط يكمن وراء الغطس. نحن نقفز بالإيمان، ونغوص في الظلام، لكن الفراغ يمتلئ بأصداء سقوطنا، كل صدى هو شيء يميز مرورنا.

نهبط في عالم الشفق، حيث يوجد قصر الحقائق المنسية. جدرانه مبنية من أشياء كانت مخفية منذ فترة طويلة، حقائق انزلقت من خلال شقوق الواقع. نتجول في قاعاته، ونفتح أبوابنا لغرف مليئة بالذكريات المنسية، كل واحدة منها كانت جزءًا منا يومًا ما. نبحث عن اللامشروط بين هذه الحقائق، لكنها كلها مرتبطة بالماضي، ومقيدة بطبيعة تذكرنا.

وفي أعمق غرفة، نجد مرآة لا تعكس أشكالنا المادية، بل جوهرنا ذاته. نحدق فيه، على أمل أن نرى اللامشروط، لكن الانعكاس لا يظهر سوى فسيفساء من الأشياء: مخاوفنا، وحبنا، وأحلامنا، وندمنا. يبقى اللامشروط محجوبًا، مختبئًا خلف نسيج وجودنا.

تأخذنا رحلتنا إلى جزيرة لا تغيب عنها الشمس أبدًا، لتغمر العالم بفجر دائم. الهواء مثقل برائحة البدايات الجديدة، والسماء عبارة عن لوحة من الألوان المتغيرة باستمرار. نسير على طول الشاطئ، حيث كل موجة تقبّل الرمال هي شيء، لحظة خلق ودمار. نجمع الأصداف البحرية، كل واحدة منها عبارة عن همسة محتملة، لكنها تتفتت في أيدينا، ولا تترك سوى آثار لما قد يكون.

وفي قلب الجزيرة ينبع النور، وتتلألأ مياهه بجوهر الخلود. نشرب بعمق، على أمل أن نتذوق ما هو غير مشروط، لكن الضوء يملؤنا بآلاف الاحتمالات، كل احتمال منها هو شيء يرقص بعيدًا عن متناول اليد. يمتد الفجر إلى ما لا نهاية، وهو وعد بشيء أكثر، لكنه لم يتحقق بالكامل أبدًا.

ندخل غابة حيث تتجذر الأفكار وتنمو مثل الأشجار. كل ورقة هي شيء، مفهوم أو فكرة ترفرف في مهب الوعي. الغابة تنبض بالحياة بأحاديث العقول، وكل شجرة هي شهادة على الطرق التي لا تعد ولا تحصى لرؤية العالم. نتجول بين الجذوع، نستمع إلى سيمفونية الفكر، على أمل أن نجد اللامشروط بين الأغصان.

وفي الخلاء وجدنا شجرة الصمت، أوراقها ساكنة وصامتة، لم تمسسها رياح الفكر. نجلس تحتها، نبحث عن اللامشروط في الهدوء. ولكن حتى في غياب الفكر، نجد أشياء: إيقاع أنفاسنا، ونبض قلوبنا، ونبض الحياة نفسها. الصمت يتحدث عن اللامشروط، ولكن فقط في لغة الأشياء.

وجهتنا النهائية كانت معبدا موجودا في الحاضر الأبدي، وهو المكان الذي يلتقي فيه الماضي والمستقبل في لحظة واحدة. تم بناء المعبد من جوهر الزمن، حيث تتلألأ جدرانه بإمكانيات كل لحظة. ندخل إلى الداخل، فيطن الهواء بطاقة الحاضر، كل ثانية شيء ينبض بالحياة.

يوجد في وسط المعبد مذبح يحمل شعلة تشتعل بالنور اللامشروط. نقترب وقلوبنا مليئة بالأمل والشوق. 



0 التعليقات: