الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 24، 2024

"أحصنة ليست كالأحصنة" نص سردي : عبده حقي


تحت سماء كدم  وجهها بشفق الأحلام المنسية، تنزلق أحصنة، وأرجلها مثل ركائز رفيعة تخترق نسيج الواقع. كل خطوة، تموج في رمال الزمن، همسة في الممرات حيث تتأرجح ظلال الفكر.

يسيرون في صمت، أبواق مكتومة بسبب ثقل حمولتهم، وزن السماوات التي ابتلعوها، منتفخة في بطونهم مثل الأقمار.

في المسافة، ترتفع الأبراج، أبراج هيكلية تخترق السماء، أصابع مسننة تخدش حافة ثوب الكون.

هذه أحصنة ليست من لحم وعظام، ولكنها من أنفاس الشفق، منسوجة من ضباب الأحلام، جلدها عبارة عن نسيج من الأساطير المنسيّة، ممدود فوق عظام منحوتة من نخاع أقدم أسرار الأرض.

عيونها عبارة عن برك، عميقة وساكنة، لا تعكس العالم بل الفوضى في الداخل، حيث تلتف الثعابين حول جذوع الأشجار المقلوبة، وتذوب الساعات في شكل الرغبة، رغبة ليس في أشياء هذا العالم، ولكن في العوالم التي تتباطأ خلف الحجاب. أنيابهم، مثل الرماح المزورة في أفران الشمس المنسيّة، تخترق الهواء بنعمه فاتره، تسحب الدم من الأثير نفسه، الذي يقطر بحركة بطيئة، وتشكل بركًا حيث يغرق الوقت نفسه، وتومض وجوه العشاق المفقودين مثل لهب الشمعة في الريح.

الأفق خط رفيع، ممتد مشدودًا بين الليل والفجر، حبل مشدود تتوازن عليه أحصنة، تتأرجح أجسادها على إيقاع أغنية لا يسمعها إلا من يسمعها.

إنها أغنية الخلق والدمار، تهويدة للكون، تُغنى بلغة من الحروف المتحركة المستحيلة، كل نغمة منها نجمة تحترق قبل أن تولد.

إنهم حراس الأحلام، وحراس الكوابيس، خطواتهم تتردد في حجرات العقل، حيث تتجعد الذكريات مثل الحيوانات الجريحة، وتختلط رائحة المطر على الأرض الجافة بطعم الدموع غير المسكوبة.

في هذه الصحراء، حيث الرمال مصنوعة من الأفكار المنسيّة، تتجول أحصنة، حجاجًا يبحثون عن ضريح، ومعبد حيث تُعبَد آلهة الجنون في صمت، حيث تُصنع المذابح من المرايا، لا تعكس سوى الفراغ في الداخل.

تحمل على ظهورها عبء الوجود، وزن كل كلمة لم تُقال، وكل وعد لم يُوفَّ به، وعظام الشعراء الذين ماتوا وأحلامهم لا تزال عالقة في حناجرهم.

ولكن لا يوجد حزن في مسيرتهم، فقط همهمة الخلود العميقة، صوت الكون وهو يزفر، وكأنه يشعر بالارتياح لأنه لا يزال موجودًا، وأن النجوم لم تنطفئ بعد، وأن الكواكب لا تزال تدور في رقصها المعقد، غير مدركة للهاوية التي تتثاءب تحت أقدامها.

لا تخشى أحصنة الهاوية، فهي أبناؤها، ولدت من الظلام الذي كان موجودًا قبل النور، أرواحهم مخيطة معًا من الظلال التي تتربص في زوايا الواقع.

إنها حراس الليل، تخدش أنيابها السماء، تاركة وراءها آثارًا من غبار النجوم، كتابات كونية مرسومة على قماش الكون.

وفي المسافة، حيث يلتقي الأفق بالسماء، تسقط دمعة واحدة من عين فيل، دمعة تحتوي على كل أحزان العالم، كل الأفراح، كل المخاوف، كل الآمال، تسقط، ليس على الأرض، بل في قلب الحالم، الذي يرقد نائماً تحت سماء كدمت بشفق الأحلام المنسيّة.

في تلك اللحظة، تختفي أحصنة، وتذوب أشكالها في الضباب، ولا يتبقى سوى صدى خطواتها، ورائحة الخلود الخافتة، باقية في الهواء مثل ذكرى شيء ضائع، شيء جميل، شيء رهيب، شيء لا يمكن أن يوجد إلا في الفضاء بين اليقظة والحلم.

وبينما يستيقظ الحالم، تظل صورة أحصنة عالقة في ذهنه، محفورة في نسيج روحه، كتذكير بالخط الرفيع الذي يمشي عليه، بين الحقيقي والمتخيل، بين المعروف والمجهول، بين النور والظلام،متوازنة إلى الأبد على حافة الكون، مع أحصنة كمرشدين لهم، تقودهم إلى أعماق قلب الحلم.


0 التعليقات: