الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 24، 2024

"طيور الغابة البرونزية" نص سردي عبده حقي


في فجر الستائر الزرقاء، حيث تتنفس السماء وكأنها آخر نفس في كون يختفي، تنبت غابة من الجذور البرونزية من بطن الأرض. كل شجرة عبارة عن هيكل عظمي، عظام ملتحمة في حلقات من الظل والهمسات، ملتوية في أشكال تتحدى مفهوم الحياة ذاته. أوراقها، إذا كان من الممكن أن نسميها كذلك، هي قصاصات معدنية تغني أغنية لا يسمعها إلا رياح الذكريات الضائعة. الهواء كثيف برائحة الصدأ، رائحة الزمن الذي نسي أن يتحرك إلى الأمام، راكدًا في شفق دائم.

في هذه الغابة، لا توجد مسارات، ولا مساحات مفتوحة، ولا وعود بالهروب. جذوع الأشجار هي قضبان، تسجن السماء نفسها، وتحاصرها في شبكة من الفروع المعدنية. النجوم، الباردة والبعيدة، تومض خلف القضبان، مثل عيون وحش مسجون، يتوق إلى الحرية التي لم يعد قادرًا على فهمها. هنا، في هذه الغابة من البرونز الملتوي، كل شيء سجين وحارس، مقيد بثقل وجوده.

في وسط هذه المتاهة، يقف قفص للطيور، لكنه ليس قفصًا مبنيًا بأيدي تعرف الدفء. إنه قفص وُلِد من كوابيس آلة، مخلوق بارد عديم المشاعر لم يعرف ضوء النهار أبدًا. قضبانه رقيقة مثل حرير العنكبوت، لكنها صلبة مثل أسرار الكون الأكثر ظلمة. في الداخل، ترفرف ألف طائر، أو ما كان في السابق طيورًا، في دوائر لا نهاية لها. أجنحتها، الممزقة ، مصنوعة من معدن رقيق مثل الورق، كل ريشة منها عبارة عن شظية من حلم منسي.

لا تغني هذه الطيور، فهي لا تستطيع أن تغني. فمناقيرها التي أصبحت مغلقة بسبب ثقل وجودها صامتة. ولكن عيونها، آه عيونها، مفتوحة على مصراعيها بسبب الخوف من الطيران الذي لا نهاية له، من الحرية التي لا يمكن الوصول إليها إلى الأبد. إنها تنطلق من حانة إلى حانة، بحثًا عن شق أو عيب أو مخرج. ولكن لا يوجد أي شيء. لقد حرصت الغابة على ذلك، حيث تلتف جذورها حول القفص، وتضيق مع كل رفرفة يائسة لجناحها.

ولكن في هذا المشهد الكئيب، حيث ينسج اليأس في الوجود ذاته، هناك وميض خافت ولكنه مستمر. إنه ليس ضوءًا، لأن الضوء ليس له مكان هنا، ولكنه فكرة، أو همسة تنتقل عبر حفيف أوراق المعدن. إنه فكرة الهروب، والتحرر من القيود الحديدية التي تحافظ على الكون في مكانه. إنه فكرة ليس لها شكل ولا مادة، ولكنها موجودة هناك، تتأخر في الهواء مثل رائحة المطر في الصحراء.

تشعر الطيور، رغم أنها لا تستطيع التحدث، بذلك. تبدأ عيونها، التي كانت باهتة وبلا حياة، في التألق بنيران غريبة، نار ليس لها مصدر ولكنها تحترق رغم ذلك. تتجمع في وسط القفص، وتفرك أجنحتها بعضها ببعض، وتطير الشرارات في الظلام. تتحرك ككتلة واحدة من المعدن والريش، عاصفة في قلب الغابة البرونزية.

ثم، وكأنها تأتي بأمر غير معلن، تنهض الطيور، ليس في نفس الزحام الفوضوي الذي سبقها، بل في حركة رشيقة واحدة. ترتجف حظيرة الطيور، وتصرخ قضبانها وتئن تحت وطأة صعودها. وتبدو الغابة أيضًا وكأنها ترتجف، وتتحرر جذورها، وتتشقق الأرض تحتها مثل قشرة بيضة قديمة. وتبدأ السماء، التي ظلت حبيسة لفترة طويلة، في التمزق، ويتفكك نسيج الواقع عند اللحامات.

لا تتوقف الطيور عن الطيران، بل ترتفع أكثر فأكثر، وتخفق أجنحتها بإيقاع يتردد صداه في عظام الكون. تنحني قضبان القفص وتتشوه، وتتفتت الغابة البرونزية وتنهار، وتبدأ السماء نفسها في الانهيار، وتتساقط شظايا ضوء النجوم مثل الدموع المنسية. ومع ذلك، ترتفع الطيور، وتثبت أعينها على الأفق البعيد، حيث لا تزال بقايا الضوء الأخيرة باقية.

ثم في لحظة تمتد إلى الأبد، تخترق الحاجز الأخير، وينكسر آخر جذر، وتنزف السماء، الممزقة مثل الجرح، الضوء في الظلام. تندفع الطيور، التي أصبحت حرة الآن، إلى المجهول، وأجنحتها تتلألأ بنور ليس من هذا العالم. لم تعد مقيدة بغابة الحديد، أو قفص الطيور، أو حتى السماء نفسها. لقد أصبحت حرة، حرة حقًا، لأول مرة في الأبدية.

ولكن هذه الحرية ليست بلا ثمن. ففي صعودها، مزقت نسيج الكون، وفككت الخيوط التي تربط الواقع ببعضه البعض. وبدأت الغابة، والطيور، والسماء، في الانهيار، والذوبان في العدم، ولم يبق وراءهم سوى فراغ، فراغ هائل حيث كان هناك شيء ما ذات يوم. وفي هذا الفراغ، تحلق الطيور، وأجنحتها تخفق في صمت، وتنعكس عيونها ضوء ألف نجمة محطمة.

ولكن حتى في هذا الفراغ، هناك شيء جديد. إنه ليس مكانًا، لأن الأماكن لم تعد موجودة، بل حالة من الوجود، وواقع جديد ولد من رماد القديم. الطيور، التي كانت ذات يوم في قفص وصامتة، تغني الآن بأصوات تتردد عبر الفراغ، وتملأه بلحن لا بداية له ولا نهاية. إنها أغنية الحرية، والهروب، والتحرر من قيود الوجود، وفي أغنيتها يبدأ الفراغ في الامتلاء.

تولد النجوم من نغمات أغنيتها، وتدور المجرات إلى الوجود، ويبدأ الكون، بمجرد تحطمه، في التعافي. غابة الحديد، والطيور، والقضبان التي كانت تحمل السماء، اختفت كلها، واستُبدلت بواقع جديد، واقع ولد من أحلام ألف طائر معدني. وفي هذا الواقع الجديد، لم تعد الطيور مقيدة بقوانين القديم. إنها حرة في الطيران حيثما تشاء، لاستكشاف الاحتمالات اللامتناهية للكون الذي خلقته.

وهكذا تطير، وتخفق أجنحتها في تناغم مع نبض الكون الجديد، وتتردد ألحانها في الفراغ، أغنية الحرية، والأمل، وبداية جديدة. وفي رحلتها، تحمل معها ذكرى الغابة البرونزية، وبيت الطيور، والسماء التي كانت ذات يوم ولكنها لم تعد موجودة. إنها خالقة عالم جديد، عالم ولد من رماد العالم القديم، عالم حيث الحرية ليست حلمًا، بل حقيقة.

وبينما يطيرون، وأجنحتهم تتلألأ بنور ألف نجمة، يدركون أنهم لم يعودوا مقيدين، ولم يعودوا مقيدين بقضبان الوجود الحديدية. إنهم أحرار، أحرار حقًا، وفي حريتهم خلقوا شيئًا جديدًا، شيئًا جميلًا، شيئًا سيدوم إلى الأبد.

0 التعليقات: