الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أغسطس 02، 2024

مائدة في الكهف : عبده حقي


أقف على حافة حلم، حيث أذوب مثل قطعة سكر ، ويصبح الحد الفاصل بين ما هو وما هو ليس مجرد اقتراح. أمامي مشهد يتحدى التفسير، صورة سيدة تهمس بأسرار العقل الباطن، حيث يتدفق الوقت ذهابًا وإيابًا في وقت واحد.

تمتد الطاولة أمامي، سطحها عبارة عن خريطة للاحتمالات. مفرش المائدة، ملاءة شاحبة مجعدة، محيط من القماش، كل ثنية عبارة عن موجة عالقة في منتصف الحركة. تتبع عيني خطوطها، بحثًا عن معنى في طياتها، فلا تجد سوى شعر الفوضى. على هذه الطاولة تستقر مجموعة من أشيائي، كل منها لغز، وكل منها قصة تنتظر أن تُروى.

تقف الكأس بالقرب من الحافة، محفوفة بالمخاطر. وكأنها تتأرجح على حافة الوجود، عالقة بين السقوط والطفو. السائل بداخلها مظلم وعميق، عالم محصور في رشفة. أتخيل نفسي أتذوقه، وأشعر ببرودته على شفتي، وكيف قد ينزلق إلى حلقي كسر. وفي الجوار، طائر جامد في الطيران، أجنحته ضبابية، محاصرة في الهروب. إنها لحظة تم التقاطها في الوقت، لمحة عن إمكانية الحرية.

سكينها مستلقية على الطاولة، شفرتها تلمع بحقيقة باردة قاسية. إنها أداة، كائن للإبداع والتدمير. المقبض مهترئ وناعم من أيدي لا حصر لها أمسكت به، كل منها تركت وراءها أثرًا من قصتها. أتساءل عن الأيدي التي وضعته هنا، وماذا كانت تنوي نحته أو قطعه، وما إذا كان الفعل عنيفًا أم فنيًا.

بجانب السكين، تقف زجاجة، عنقها مائل في منتصف الصب. الزجاجة متشققة، ومع ذلك فهي متماسكة، شهادة على المرونة. في الداخل، شيء يلمع - سائل، ربما، أو ضوء محاصر داخل حدودها. إنها منارة في بحر الغموض هذا، ترشدني إلى اللغز التالي.

هناك تفاحة، متوازنة بشكل لا يصدق على حافة طبقي، تتحدى الجاذبية والعقل. إنها ثمرة المعرفة والإغراء، ورمز لكل ما نرغب فيه ولكن لا نستطيع الحصول عليه. قشرتها مثالية، لا تشوبها شائبة، حمراء غنية لدرجة أنها تبدو وكأنها تنبض بالحياة. أتخيل نفسي أعضها وأتذوق حلاوتها وأشعر بعصيرها يسيل على ذقني. لكن في هذا العالم، لا شيء كما يبدو، وأتساءل عما إذا كانت التفاحة قد تتحول إلى رماد في فمي.

بجانب التفاحة، يوجد طبق آخر يحمل شيئًا يتحدى الوصف. إنه خشن وملمسه مثل سطح القمر البعيد أو قطعة مرجان. إنه في غير مكانه ومع ذلك فهو في منزله تمامًا في هذا المكان. إنه جزء من المجهول، قطعة من عالم آخر، أحضرت إلى هنا لتذكرني باتساع الكون والألغاز التي تكمن فيه.

على اليمين، يقف شكل هندسي معقد، لغز باللونين الأحمر والأسود. إنه عبارة عن شبكة من الزوايا والحواف، وقلعة مبنية لاحتواء شيء ما أو لمنع شيء ما. إنه حاجز ونافذة، لمحة إلى بُعد آخر. تتحول الأنماط وتتغير عندما أنظر إليها، رقصة من الظلال والضوء تتحدث عن معماريين من عالم آخر وعقول غريبة.

في البعيد، خلف الدرابزين، يمتد البحر إلى الأفق، مساحة شاسعة من اللون الأزرق تندمج مع السماء. الماء هادئ، مرآة تعكس غرابة المشهد أمامي. إنه حدود، خط يفصل هذا العالم عن عالم آخر، حاجز جذاب وممنوع في نفس الوقت. السماء عبارة عن تدرج من الألوان، لوحة من درجات الشفق التي تمتزج مع بعضها البعض، مما يخلق خلفية لهذه المسرحية السريالية.

تمتد يد من اليسار، تحمل شيئًا صغيرًا ودقيقًا. إنه كأس مصغرة، هشة ومثالية. اليد غير مجسدة، وجود شبحي يحوم على حافة رؤيتي. تقدم لي الكأس، في لفتة مشاركة، وتواصل. أتردد، غير متأكد مما إذا كان يجب أن آخذها، غير متأكد مما قد تحتويه. إنها دعوة للمشاركة في وليمة غير واقعية، للدخول بشكل كامل في الحلم وترك عالم اليقظة وراء ظهري.

عندما أقف هناك، أشعر بالدهشة والقلق. هذا المكان مألوف وغريب في الوقت نفسه، إنه مشهد للعقل حيث لا يسيطر المنطق. إنه مكان حيث يصبح العادي غير عادي، حيث يتحول الدنيوي إلى سحري. إنه عالم حيث كل شيء ممكن، حيث تمتد حدود الواقع وتنحني، حيث يتحدث العقل الباطن بالرموز والاستعارات.

وهكذا، أظل على الحافة، أتطلع إلى قلب الكهف، حيث الأشياء على الطاولة ليست مجرد أشياء. إنها شظايا من حلم، قطع من لغز قد لا أفهمه تمامًا أبدًا. ولكن في غموضها، هناك جمال، وفي غرابتها، هناك حقيقة تتجاوز العادي. وهكذا، أشاهد وأتساءل، مسافرًا في أرض السريالية هذه، يبحث عن المعنى في الفوضى، ويجد، ربما، انعكاسًا لروحي.

0 التعليقات: