الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 17، 2024

نص سردي "أسطورة طيف" : عبده حقي


في قلب غابة قزحية، حيث يحوم الزمن مثل لحن دخاني، تنام ريح صامتة في جوف حجر. تحلم بمسارات منسية، حيث تتدفق السماء إلى الأرض، مرآة سائلة تحطمها أجنحة الطيور متخفية. هنا، تهمس الأشجار بأسرار للأنهار، أسرار تتحول إلى غيوم وترتفع مثل الدخان إلى القبو العميق أعلاه.

تحت المظلة، ترقص الظلال متعانقة مع الضوء، وتتشابك أطرافها في رقصة بطيئة ومتعمدة. تتحدث لغة أقدم من الجبال، لغة من أنفاس الأرض ونبض النجوم. أصوات الظلال ناعمة، مثل همهمة الأوراق في الليل، لكنها تحمل ثقل ألف حلم منسي.

يخرج طيف من الصمت، صورة لفكر نقي، وعاء لأحلام الريح النائمة. يتحرك برشاقة همسة، جسده منفوخ من الدخان والضباب، عيناه تحترقان بنور شمس بعيدة. يحمل مفتاحًا، مزورًا في نيران فجر ، مفتاح يفتح أبوابًا لعوالم غير مرئية، عوالم حيث المستحيل هو الحقيقة الوحيدة.

يتوقف الطيف  عند حافة هاوية واسعة، فراغ يمتد إلى ما لا نهاية، أعماقه تدور بألوان الجنون. يتوهج المفتاح في يده، منارة أمل في الظلام. بحركة واحدة، يفتح الطيف  الهاوية، وتنطلق الريح، سيل من الأصوات والرؤى التي تغمر الهواء مثل عاصفة من الأحلام.

تحمل الريح معها رائحة الذكريات المنسية، وطعم النجوم البعيدة، ولمسة يد العاشق. تهمس بالأسرار للجبال، أسرار تتردد عبر الوديان وترتفع مثل الضباب إلى السماء. صوت الريح سيمفونية من الفوضى، لحن من الجنون ينسج من خلال الواقع، ويفك خيوط الزمان والمكان.

في قلب العاصفة، يقف الطيف  بلا حراك، وعيناه ثابتتان على نقطة ما وراء الأفق، نقطة تلتقي فيها السماء والأرض في قبلة من النار والجليد. إنه يرى المستقبل في اللهب، مستقبل حيث يولد العالم من جديد في صورة حلم، منسوج من خيوط الضوء والظل، من الحياة والموت، من الأمل واليأس.

يتقدم الطيف  إلى الأمام، إلى قلب العاصفة، ويتحرك العالم من حوله، ينحني لإرادته. تموج السماء مثل الماء، وتومض النجوم واحدة تلو الأخرى، وترتجف الأرض تحت قدميه. تعوي الريح في تحد، لكن الطيف  لا يتحرك، وإرادته لا تلين، وهدفه واضح.

في ومضة من الضوء، اختفت العاصفة، وظل العالم ساكنًا. يقف هذا الطيف   وحيدا على حافة فجر جديد، فجر ينهض من رماد العالم القديم، فجر يحمل معه وعدًا ببداية جديدة. صمتت الريح مرة أخرى، وأحلامها تحققت، وهدفها اكتمل.

"يستدير الطيف ويبتعد، تاركا وراءه رماد العالم القديم، ويخطو إلى نور العالم الجديد. السماء صافية، والهواء ساكن، والعالم في سلام. لقد اختفى الطيف  ، لكن وجوده ما زال باقيًا، همسة في الريح، وظل في الضوء، وذكرى في قلب الأرض.

وهكذا يدور العالم، كما كان دائمًا، وتنام الريح مرة أخرى، وتحلم بالمسارات المنسية، حيث تتدفق السماء إلى الأرض، ومرآة سائلة تحطمها أجنحة الطيور.

ومع ذلك، في الصمت، يتحرك صدى خافت، ويموج عبر نسيج السكون. حلم الريح لم ينته بعد. في أعماق الأرض، تحت جذور الأشجار القديمة، تبدأ فكرة جديدة في التشكل. إنها فكرة من الكريستال والظل، هشة مثل الهمس ولكنها قوية مثل الصراخ. ترتفع ببطء، مثل الدخان من جمر نار مشتعلة، ملتوية ومتحولة وهي تصعد إلى السطح.

" ترتجف الأرض عندما تظهر الفكرة، ثعبان بلوري ملتف في قلب الجبل. تلمع قشوره بنور شمس منسية، وتحترق عيناه بنار ألف نجمة. يتحرك لغرض لا تعرفه إلا الريح، يتسلل عبر عروق العالم، ويترك وراءه دربًا من الضوء والظلام.

مع صعود الثعبان، تبدأ السماء في التحول. تخفت النجوم، ويبتلع قوة غير مرئية ضوءها. يرتجف القمر ويتلاشى، ويحجب وجهه حجاب من الظلال. الليل كثيف برائحة الأرض والحجر، والهواء ثقيل بثقل العيون غير المرئية.

يصل الثعبان إلى السطح، ويخترق رأسه التربة مثل زهرة تبحث عن الشمس. يحدق في العالم بعينين ترى ما وراء حجاب الواقع، عينان تخترقان قلب الوجود. تسقط نظرة الثعبان على الطيف الذي يقف على حافة الفجر الجديد، وفي تلك اللحظة، يصبح الاثنان كائنا واحدًا.

لم يعد الطيف وحيدا؛ بل أصبح الآن الثعبان، والثعبان هو الطيف  . إنهما اثنان في واحد، ثنائية تتحدى المنطق والعقل. يرتفعان معًا إلى السماء، وجسداهما متشابكان في رقصة من الضوء والظل، من الخلق والدمار. تتبعهما الريح، شاهدًا صامتًا على صعودهما، تحمل أنفاسها رائحة الأرض ونار النجوم.

ومع صعودهما إلى أعلى، تبدأ السماء في التفكك. تتساقط النجوم مثل الدموع، تاركة وراءها مسارات من الضوء تنسج فسيفساء جديدًا، نسيجًا من الأحلام والكوابيس، من الأمل واليأس. يتحرك الثعبان والطيف عبر الخيوط، وتنسج حركتهما أنماطًا جديدة، وتخلق عوالم جديدة مع كل خطوة.

يصلان إلى الذروة، حيث تلتقي السماء والأرض في قبلة من النار والجليد، وهناك يتوقفان، وجسديهما متشابكان في عناق أبدي. تحترق عيون الثعبان بنور مرعب وجميل في نفس الوقت، نور ينير أظلم زوايا الروح.

في تلك اللحظة، يفهم الطيف . يرى الحقيقة التي تكمن تحت السطح، الحقيقة التي كانت متخفية لفترة طويلة. العالم ليس كما يبدو؛ إنه حلم، خلق العقل، انعكاس للعقل الباطن. الثعبان هو المفتاح، مفتاح حل ألغاز الوجود، مفتاح فهم الطبيعة الحقيقية للواقع.

يمد الطيف  يده ويرتجف وهو يلمس حراشف الثعبان. لحظة الاتصال كهربائية، طفرة من الطاقة تتدفق عبر جسد الطيف ، وتملأه بإحساس بالقوة والغرض. "يمتزج الطيف والثعبان، وتذوب أشكالهما في كتلة دوامة من الضوء والظل، والفكر والعاطفة، والحياة والموت.

معًا، يهبطان، هبوطهما بطيئًا ومتعمدًا، عودة إلى العالم السفلي. تشفي السماء نفسها، وتعود النجوم، وتعود الأرض إلى السلام مرة أخرى. لكن العالم تغير، لأن الطيف رأى الحقيقة، والحقيقة لا يمكن إخفاؤها.

تغفو الطيف مرة أخرى، في أعماق قلب الأرض، وتشابكت أحلامه مع أحلام الريح. يمشي وحده، لكنه لم يعد هو نفسه. إنه تحمل معرفة الثعبان، وفهم الريح، وثقل الحقيقة. إنه الخالق والمدمر، الحالم والحلم، النور والظل.

وهكذا يتحول العالم، كما كان دائمًا، ولكن الآن مع همسة حلم جديد، حلم مسارات منسية، حيث تتدفق السماء إلى الأرض، مرآة سائلة تحطمها أجنحة الطيور غير المرئية.

0 التعليقات: