كان ذلك في يوم بدا فيه أن السماء قد نسيت لونها، وارتدت بدلاً من ذلك غطاءً رماديًا شفافًا، عندما أدركت لأول مرة الطبيعة الحقيقية للعين. كنت أسير على طول شارع مهجور، حيث كانت المباني مائلة نحو بعضها البعض مثل مسافرين متعبين يتبادلون الأسرار. كان الهواء كثيفًا برائحة المطر الوشيك، وشعرت وكأن العالم يحبس أنفاسه، في انتظار شيء ما لكسر التعويذة.
كان صدى خطواتي يتردد في الصمت، بإيقاع يطابق دقات قلبي، وكأنني جزء من جهاز قياس إيقاع كوني عظيم. وبينما كنت أسير، لاحظت أن الأشياء من حولي ـ أعمدة الإنارة، والنوافذ، وحتى الحجارة المرصوفة تحت قدمي ـ بدت وكأنها تتلألأ، وكأنها ليست صلبة تماماً. كانت تهتز بحياة داخلية، ونبض أستطيع أن أشعر به في عظامي.
بدأ الشارع،
الذي كان مستقيمًا وضيّقًا ذات يوم، يتلوى ويتعرج مثل شريط يلتقطه الريح. وتمايلت
المباني وتمدّدت، وأصبحت نوافذها بيضاوية الشكل، وذابت أبوابها في الجدران مثل
الزبدة تحت الشمس. وتمايلت أحجار الرصف تحت قدمي، ترتفع وتهبط مثل سطح محيط لا
يهدأ. وفي الوقت نفسه، كانت العين، عيني، أعيننا، تراقب كل شيء، شاهدًا صامتًا على
الفوضى.
مددت يدي لألمس
عمود الإنارة الأقرب لي، على أمل أن أستقر، لكن يدي مرت عبره وكأنها مصنوعة من
الدخان. ومض عمود الإنارة وتلاشى، وفي مكانه وقفت مرآة طويلة وضيقة، لا تعكس
صورتي، بل تعكس منظرًا مألوفًا وغريبًا في الوقت نفسه.
في المرآة، رأيت
صحراء لا نهاية لها، ذهبية اللون، تحت سماء بلون الخزامى المجروح. كانت الشمس
منخفضة، كرة برتقالية منتفخة، تلقي بظلال طويلة بدت وكأنها تمتد نحو ما لا نهاية.
لكن كان هناك شيء آخر، شيء أرسل قشعريرة أسفل عمودي الفقري - وجود يراقب من محيط
الانعكاس، خارج نطاق رؤيتي.
ابتعدت عن
المرآة، لكن الصحراء كانت تلاحقني، فتبتلع الشارع والمباني والمدينة بأكملها. لم
أعد أسير على الحجارة المرصوفة، بل على الرمال الناعمة الساخنة التي انزلقت بين
أصابعي وأنا أركع لأمسكها. كانت السماء فوقي شاسعة وخالية، باستثناء العين التي
كانت تحدق فيّ الآن وكأنها إله منتقم.
أدركت أن أشياء
هذا العالم لابد وأن تمر عبر وسائط معاكسة حتى تظهر بشكل صحيح على حدقة الإدراك.
فكما ينحني الضوء حين يدخل الماء، كذلك ينحني الواقع حين يلج العين. فالصحراء لم
تكن صحراء، والسماء لم تكن سماء، وأنا ـ هل كنت أنا نفسي؟ أم كنت مجرد تشويه، أو
خدعة من الضوء، أو شبحاً تم إسقاطه على شاشة عقلي؟
تجولت في
الصحراء، وأفكاري تتناثر مثل الرمال في مهب الريح. فقد الزمن معناه. واختلطت
الأيام بالليالي، واختلطت الليالي بالأيام، وطاردت الشمس والقمر بعضهما البعض عبر
السماء في رقصة محمومة لا تنتهي. كانت العين تراقب كل شيء، دون أن ترمش، وتستوعب
كل التفاصيل، وكل ومضة من الحركة، وكل تغيير في الضوء.
ولكن الصحراء لم
تكن صامتة. لقد همست لي بلغة لم أفهمها، لغة الرياح والكثبان الرملية المتحركة،
ولغة الظلال التي تزحف عبر الرمال وكأنها كائنات حية. وتزايدت الهمسات، حتى تحولت
إلى ضوضاء صاخبة، وعاصفة من الأصوات التي دارت حولي، وجذبتني في كل اتجاه في آن
واحد. وشعرت بأنني أتمزق، وأتفتت إلى ألف قطعة، وكل قطعة عالقة في دوامة الإدراك.
وبعد ذلك، وبنفس
السرعة التي بدأت بها، توقفت العاصفة. وساد الصمت الصحراء مرة أخرى، ووجدت نفسي
واقفًا على حافة محيط مظلم شاسع. كان الماء ساكنًا، مثل لوح زجاجي، يعكس السماء
فوقه بوضوح تام. وكانت العين هناك أيضًا، تحوم فوق الأفق، كنقطة ضوء واحدة وسط
الظلام المتجمع.
ركعت على حافة
المياه ونظرت إلى الأعماق، متوقعًا أن أرى انعكاسي يحدق فيّ. ولكن بدلًا من ذلك،
رأيت الصحراء والمدينة والشارع الذي بدأت منه رحلتي. رأيت أعمدة الإنارة والنوافذ
والحجارة المرصوفة والمرايا، كلها تتلألأ بنفس الضوء الغريب، نبض الحياة الذي شعرت
به في عظامي.
ثم أدركت أن
العين ليست مجرد مراقب؛ بل هي خالقة. فهي تشكل العالم وفقًا لتصميمها الخاص، وتثني
الواقع ليناسب محيط إدراكها الخاص. والأشياء التي نراها، والأشخاص الذين نلتقيهم،
والأماكن التي نزورها ـ كلها انعكاسات وصور مشوهة تُعرض على شاشة عقلنا، وتصفى من
خلال عدسة تجربتنا الخاصة.
إن إدراكنا
بكامله يشبه العين. فلابد أن تمر الأشياء عبر وسائط متعارضة حتى تظهر بشكل صحيح
على حدقة العين. فنحن جميعًا نتجول في صحراء المرايا، نبحث عن الحقيقة في الرمال
المتحركة لوعينا. والعين تراقبنا جميعًا، دون أن ترمش، في صمت دائم، وفي وحدتنا
إلى الأبد.
ولكن في هذا
الصمت يوجد نوع من السلام، ونوع من الفهم. فبالرغم من أن العالم قد يكون وهمًا، أو
حلمًا قد لا نستيقظ منه أبدًا، إلا أنه وهمنا وحلمنا. وفي النهاية، هذا يكفي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق