الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أغسطس 27، 2024

"لغز البرج القرمزي" قصة قصيرة عبده حقي


حيث تهمس الظلال بأسرارها للأحجار المرصوفة، أجد نفسي تائهًا، حطام سفينة وحيدًا على شواطئ هذياني. السماء عبارة عن قماش ملطخ بزيت الأبدية، وفوق كل ذلك يرتفع برج القرمزي، ينزف، جرحًا لن يلتئم. يناديني، سيمفونية مستحيلة من الصمت، وكأن البرج نفسه منارة للتائهين الحائرين.

الهواء مفعم برائحة الأمطار القديمة، ورائحتها تختلط بأشباح أحلام الأمس. صدى خطواتي يتردد في الفراغ، صدى أجوف يجعل العالم يبدو أكثر وحشة. أمشي، أو ربما أطفو، لأن الزمان والمكان قد التوى في عقد لم أعد أستطيع فكها. تنحني الشوارع وتتعرج، مثل عروق حيوان عملاق نائم تحت الحجارة المرصوفة.

يقف برج القرمزي على حافة العقل، حيث ينحل المنطق مثل خيط متهالك، ويكشف الكون عن أنه ليس أكثر من عرض للدمى، حيث تتشابك الخيوط، وتنهار الدمى في رقصة من الفوضى. البرج بعيد وقريب في نفس الوقت، وهو مفارقة تسخر من حواسي، ومع ذلك لا أستطيع أن أبتعد عنه. فأنا منجذب إليه، تجذبني قوة غير مرئية، وكأن البرج يحمل الإجابة على سؤال لم أسأله قط.

المباني من حولي متجمدة في شفق دائم، وواجهاتها مهترئة بفعل ثقل القرون. وهي تميل باتجاه البرج، وكأنها تحترمه أو ربما تخشاه، لأن وجود البرج ليس حميداً. فهو حارس للمجهول، ونصب تذكاري للأسرار التي تكمن خلف حجاب الواقع. أشعر بنظراته ، عين لا ترمش وترى من خلال طبقات روحي، فتنزع الأقنعة التي أرتديها حتى لا يتبقى شيء سوى العصب الخام المكشوف.

همسات من قمة البرج، همسات تدور حولي مثل سرب من الحشرات غير المرئية. تتحدث بلغة لا أفهمها، ومع ذلك تتسرب معانيها إلى ذهني، سم بطيء يخدر أفكاري ويطمس حواف وعيي. أنا ضائع، ليس في المدينة، بل في داخلي، متاهة من الذكريات والمخاوف التي تتلوى وتدور، تقودني إلى أعماق المجهول.

كلما اقتربت، ينكشف البرج بشكل أكبر، وينبض سطحه الأحمر بالحياة. إنه ليس حجرًا أو طوبًا، بل شيء عضوي، شيء حي. تتنفس الجدران، وتنفث دفئًا مريحًا وخانقًا في الوقت نفسه. أضع يدي على سطح البرج، فيبدو الأمر وكأنني ألمس جلد عملاق نائم، ناعم ودافئ، ولكن مع لمحة من شيء خطير كامن تحته.

الباب عند قاعدة البرج مشرع، وفم مفتوح يدعوني للدخول. أتردد، لكن الجذب كان قويًا للغاية. أخطو عبر العتبة، والعالم الخارجي يتلاشى مثل الضباب في شمس الصباح. أنا داخل الجبل القرمزي الآن، وهو ليس كما توقعت. شاسع، مساحة لا نهاية لها من اللون الأحمر، بلا جدران، ولا أرضية، ولا سقف - مجرد فراغ لا نهائي من الضوء القرمزي الذي يبدو أنه ينبض في الوقت المناسب مع دقات قلبي.

أسير، أو ربما أطفو، عبر هذا الفضاء اللامتناهي. لا توجد معالم أو نقاط مرجعية، فقط الضوء الأحمر الذي يحيط بي، يملؤني ويستهلكني. أشعر وكأنني أُمتص داخل البرج نفسه، ويذوب جسدي في اللون القرمزي، ويصبح واحدًا مع البرج. من المفترض أن ترعبني هذه الفكرة، لكنها لا تفعل. بدلاً من ذلك، هناك شعور غريب بالسلام، وكأنني وصلت أخيرًا إلى المكان الذي من المفترض أن أكون فيه.

لا معنى للوقت هنا. تمتد الدقائق إلى ساعات، والساعات إلى أيام، أو ربما العكس. لم أعد أعرف. يهمس البرج في أذني بصوته الناعم المهدئ، مثل تهويدة تغنيها الأم لطفلها. يخبرني بالأسرار، بأشياء كنت أعرفها دائمًا ولكن لم أتمكن أبدًا من وضعها في كلمات. يعرفني البرج، ويفهمني، بطريقة لم يفعلها أحد من قبل. إنه مُعرِّفي، ومؤتمن على أسراري، وحبيبي.

لا أعرف كم مضى من الوقت وأنا هنا. أيام، أسابيع، سنوات - كل شيء هو نفسه. لقد أصبح برج القرمزي عالمي، وواقعي. شوارع المدينة، والحياة التي عرفتها ذات يوم، تبدو بعيدة، مثل حلم. لم أعد الشخص الذي كنت عليه. لقد تحولت، وولدت من جديد في الضوء القرمزي. أنا جزء من البرج الآن، وأفكاري متشابكة مع وعيه القديم.

لا مفر من البرج القرمزي، لكنني لم أعد أرغب في الهروب. هذا هو المكان الذي أنتمي إليه، حيث كنت أنتمي دائمًا. لقد أراني البرج الحقيقة، وكشف عن الأكاذيب التي أخبرت بها نفسي. العالم الخارجي هو وهم، سراب يتلاشى في ضوء وهج البرج القرمزي. هنا، داخل هذه الجدران الحمراء، أنا حر - حر في أن أكون من أنا حقًا، حر من قيود الواقع الذي بدا دائمًا صغيرًا جدًا ومقيدًا جدًا.

وهكذا أظل، بين أحضان البرج القرمزي، متشابكة روحي مع جوهره. لم يعد البرج لغزًا، ولم يعد لغزًا يتعين حله. إنه جزء مني، وأنا جزء منه. معًا، نقف، أبديين لا يتغيران، منارة من الضوء الأحمر في عالم من الظلال. أنا البرج، والبرج هو أنا.

 

0 التعليقات: