أنا نسر الزمن، أحلق فوق سهول الوقت التي لا نهاية لها. أجنحتي، الواسعة كالبحار والمحيطات، تضرب صدر السماء، تقرع إيقاعًا لا تفهمه إلا الأرض. إنه ليس إيقاع حياة ولا موت، بل همسة تتسلل بينهما، شفرة تذوب مثل السكر في هدير المحيط. ترتجف الأرض تحتي بذكريات - مخالب الجذور تحفر في عظام المدن، وتفتت آثارها إلى غبار يغذي الحدائق.
من ادعى وصيته لهذه الأرض، هذه النسمة من التربة، هذه التجاعيد من الرمال؟ أضحك في وجهه ، منقاري يكسر القشرة الهشة لمثل هذه الأوهام. الأرض، هذه الجوهرة الدوارة، لا تنتمي إلى غاصب وكل شخص، لأولئك الذين رقصوا هنا في الماضي، وأولئك الذين لم يدوروا بعد على مسرحها. ولكن من هم هؤلاء، هؤلاء حراس المفاتيح وبناة الجدران، الذين اعتقدوا أنهم يستطيعون حبس الريح في جرة، واحتجاز الشمس في وعاء من الطين؟
ولكن ما هذا
الطين إن لم يكن جثثاً مذابة لأولئك الذين ادعوا ذات يوم أن الأرض ملك لهم،
لتأكلها الديدان التي خافوها؟ آه، الديدان، المعيدون الكبار، يحولون الماضي إلى
الحاضر، ولا يتركون سوى همس عما كان. إنهم بستانيو الحديقة العظيمة، ولا يزرعون
سوى بذور النسيان في التربة الخصبة لما كان ذات يوم فخراً وقوة. هؤلاء الديدان،
هؤلاء الرعاة الصامتون، لا يعرفون الحدود، ولا يحترمون الأسوار، إنهم يتغذون على
لحوم الملوك والمتسولين على حد سواء. ماذا عن أولئك الذين سبقوهم؟ لم يتركوا سوى
أصداء خطواتهم في الغبار، وحتى هؤلاء يتلاشوا، ويضيعون في الريح التي تعوي عبر
الشوارع الفارغة للمدن والقرى المنسيّة.
ومع ذلك، فإن
الأرض تدور، غير مبالية بغطرسة أولئك الذين تصوروا أنهم قادرون على ترويضها،
والذين تصوروا أنهم قادرون على امتلاكها. الأرض وحش له رغباته الخاصة، وجوعه
الخاص. لن يتم ترويضه، ولن يتم امتلاكه، وسوف يلتهم كل من يقف في طريقه. ترتفع
الجبال وتنخفض، والأنهار تنحت مسارات جديدة، والغابات تنتشر وتتراجع، ومن خلال كل
هذا، تظل الأرض، أبدية لا تُقهر.
أنا لست سوى
لحظة عابرة في رقصة الزمن العظيمة، شرارة تومض للحظة ثم تختفي. جسدي، هذا الوعاء
المصنوع من لحم وعظام، هو هدية من الأرض، قرض يجب سداده بالكامل. وعندما يحين
وقتي، سأعود إلى الأرض، وسوف تلتهم جسدي الديدان، وتتحول عظامي إلى غبار بمرور
الوقت بلا هوادة. سأنسى، تمامًا كما نُسي كل من سبقوني. لكنني لن أحزن، لأنني لست
جسدي، ولست هذه الشرارة العابرة للوعي. أنا الأرض، أنا الريح التي تعوي عبر
الأشجار، أنا النهر الذي يشق طريقه عبر الجبال، أنا النار التي تحترق في قلب
العالم.
إن العالم، هذا
المسرح العظيم، هو خشبة نؤدي عليها أدوارنا، ولكن خشبة المسرح نفسها أبدية لا
تتغير. نحن الممثلون والراقصون والمغنون، ولكن خشبة المسرح هي الأرض، والأرض لا
تنتمي إلى أحد، بل إلى الجميع. نحن نأتي ونذهب، ولكن الأرض تبقى، غير مبالية
بقدومنا وذهابنا، وانتصاراتنا ومآسينا. إنها إله عظيم غير مبال، يراقب دراماتنا
الصغيرة بعينين محايدتين.
ولكن ماذا عن الوصاية؟
ما أغرب هذا المفهوم أن نتصور أننا نستطيع أن نمتلك الأرض، وأننا نستطيع أن
نمتلكها كما نمتلك كرسياً أو طاولة أو منزلاً. إن الأرض تسخر من ادعاءاتنا
وغطرستنا. إنها سوف تدوم إلى ما بعدنا جميعاً، وسوف تسحق آثارنا وتجعلها غباراً،
وسوف تبتلع مدننا بأكملها. إن الأرض ليست ملكاً لنا ، وليست ملكاً لنا لنمتلكها.
إنها هبة، أو قرض، أو شيء نستخدمه ثم يجب أن نرده.
ولكن إذا كانت
الأرض قرضاً فمن هو المُقرض إذن؟ وماذا عن الفائدة والديون التي ندين بها؟ لقد
أخذنا الكثير، واستهلكنا الكثير، فماذا أعطينا في المقابل؟ الأرض بنك عظيم، ونحن
المقترضون، نأخذ ونأخذ ولا نعطي أبداً. ولكن الدين لابد أن يُسدَّد، والأرض
ستجمعه، وستستعيد ما هو مستحق، وأكثر من ذلك. الأرض دائن قاس، ستأخذ أرواحنا،
ومدننا، وحضاراتنا، وتسحقها إلى غبار.
ولكن ماذا عن
المستقبل، عن أولئك الذين سيأتون بعدنا؟ هل سيرثون الأرض أم سيرثون غبار عظامنا؟
هل سيرثون عالم الوفرة أم عالم الندرة؟ الأرض كائن حي، ويمكن رعايتها والعناية بها
وشفاؤها. ولكنها يمكن أن تجرح أيضًا، ويمكن تسميمها، ويمكن قتلها. الأرض هبة،
وقرض، وكنز، ولكنها أيضًا عبء، ومسؤولية.
نحن وكلاء
الأرض، وحراس كنوزها، وحراس مستقبلها. لكننا فشلنا في أداء واجبنا، وأهدرنا
ميراثنا، وسممنا البئر الذي نشرب منه. الأرض قاضية قاسية، لن تغفر ولن تنسى.
ستستعيد ما تستحقه، وأكثر من ذلك. وعندما تفعل ذلك، فلن نكون سوى غبار متناثر في
الرياح، منسيين في زحف الزمن العظيم.
ولكن حتى في
فشلنا، هناك أمل، وهناك فداء. الأرض كائن حي، ويمكن شفاؤها، ويمكن استعادتها.
يمكننا أن نتعلم، ويمكننا أن نتغير، ويمكننا أن نصبح أفضل وكلاء للأرض، ورعاة أفضل
لكنوزها. الأرض هي هبة، وقرض، وكنز، ولكنها أيضًا عبء، ومسؤولية. إنها إله عظيم،
غير مبال، يراقب دراماتنا الصغيرة بعيون خالية من العاطفة. لكنها أيضًا كائن حي،
وحش له رغباته الخاصة، وجوعه الخاص. والأمر متروك لنا، وكلاء الأرض، لضمان بقائها
هبة، وكنزًا، وليس عبئًا، أو لعنة.
إن الأرض ليست
ملكنا، وليست ملكنا لنمتلكها. إنها هبة، أو قرض، أو شيء نستخدمه ثم نعيده. وعندما
يحين أجلنا، وعندما تسترد الأرض ما تستحقه، فلن نكون سوى غبار، متناثرين في
الرياح، منسيين في غمرة الزمن العظيم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق