الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 31، 2024

"أرض تطاوع قدماي" نص مفتوح : عبده حقي

 


تنطوي السماء على نفسها، منتصف الليل مغموس في حبر أسود لدرجة أنه يبتلع حتى النجوم. أقف على أعتاب عالم مفكك، حيث تتلاشى حافة الليل في خيوط متشابكة من الذاكرة. طعم الهواء يشبه السكر المحروق والهمسات القديمة، كثيفًا بثقل الأصوات التي لم تتعلم أبدًا الكلام. أتجول، وأتتبع قدماي أنماطًا في الغبار الذي يلمع بتوهج ألف قمر ميت.

مخلوق بأجنحة من ورق ونار ينزلق عبر الظلام، رحلته الصامتة عبارة عن رقصة تدمير وخلق. يترك وراءه آثارًا من الدخان تتلوى على شكل أحلام منسية، أحلام عاشت ذات يوم في زوايا عقل طفل، والآن منفية إلى هذا المكان حيث تنسى الحقيقة نفسها. أمد يدي، وأصابعي تمسح الحواف الناعمة لذكرى أشعر أنها تنتمي إلى شخص آخر، شخص لم أعرف اسمه أبدًا.

تنبض الأرض تحت قدمي بنبض قلب ليس نبضي. ينبض بإيقاع يتحدث عن الوقت الذي لم ينته، ​​عن اللحظات التي تتسلل عبر شقوق الوجود مثل الرمال في المنخل. تدق ساعة بلا عقارب في المسافة، وكل نغمة معلقة في الهواء مثل سؤال لم تتم الإجابة عليه. أتبع الصوت، خطواتي غير مستوية، ومساري غير مؤكد، وكأن العالم تحت قدمي يتحول مع كل نفس أتنفسه.

في البعيد أرى شيئا. إنه يقف شامخاً وثابتاً، صخرة ضخمة منحوتة من مادة الكوابيس، سطحها أملس وبارد، مثل جلد مخلوق لم يعرف دفء الشمس قط. ليس له وجه، ومع ذلك أشعر بنظرته نحوي، ثقل يضغط على روحي، ويدفعني إلى الأمام. أقترب، منجذباً بجاذبية لا أستطيع مقاومتها، مثل فراشة تقترب من لهب يحترق بضوء ألف خوف غير معلن.

حول هذا الشيء، يشتعل الهواء بالطاقة، وهي شحنة ساكنة تجعل بشرتي ترتعش وشعري يقف. أستطيع أن أشم رائحة الأوزون، حادة وقاسية، وكأن عاصفة تختمر خلف أفق هذه المناظر الطبيعية الملتوية. يرفع الشئ يده، وفي قبضته يحمل مرآة. لكن هذه ليست مرآة عادية؛ سطحها يتلوى مثل الماء المضطرب بقوة غير مرئية، وفي أعماقها، أرى صورًا تتحول وتتغير، ولا تستقر أبدًا على شكل واحد لفترة طويلة.

ألمح وجوهًا، بعضها مألوف وبعضها الآخر غير معروف، وكلها ملتوية في تعبيرات الرعب واليأس. تمد أيديها إليّ، وأفواهها تتحرك في صرخات صامتة، وأعينها تتوسل للإفراج عن أي عذاب يأسرها. أبتعد، غير قادر على تحمل المشهد، لكن الصور تظل محفورة في ذهني مثل صورة ما بعد ضربة البرق.

تنفتح السماء فوقي، ومن بين الدموع ينسكب سيل من الألوان، فيغمر المشهد بألوان لا اسم لها. تدور الألوان وتمتزج، لتشكل أشكالاً تتحدى المنطق والعقل، أشكالاً تبدو وكأنها تنبض بحياة خاصة بها. تتحرك برشاقة انسيابية، متماوجة مثل أمواج المحيط التي تحاصرها العاصفة. أشاهد، منبهرًا، الأشكال وهي تتخذ أشكال مخلوقات لا أستطيع تسميتها، مخلوقات لا توجد إلا في الفراغات بين الأحلام واليقظة.

يقترب مني أحد هذه المخلوقات، جسده عبارة عن كتلة من الألوان والضوء، وعيناه عبارة عن فراغين توأمين يبدو أنهما يسحبان نسيج وجودي. إنه يتحدث دون كلمات، وصوته لحن يتردد صداه في أعماق روحي، أغنية حزن وشوق تجلب الدموع إلى عيني. أمد يدي لألمسه، لكن يدي تمر عبره وكأنها من دخان. يبتسم المخلوق ابتسامة حزينة واعية قبل أن يذوب في الهواء، تاركًا وراءه صدى أغنيته فقط.

أجد نفسي وحدي مرة أخرى، واقفًا في عالم مألوف وغريب في الوقت نفسه، عالم لم تعد قواعد الواقع تنطبق عليه. تتحرك الأرض تحت قدمي، وأجد نفسي واقفًا على حافة هاوية واسعة، يلف الظلام أعماقها. أشعر برغبة ملحة في القفز، وإلقاء نفسي في الفراغ والسماح له باستهلاكي، لكن شيئًا ما يمنعني، صوت يهمس في أذني، يطلب مني الانتظار، والمراقبة، والاستماع.

وهكذا أقف متأرجحًا على حافة الهاوية، وقلبي ينبض في صدري مثل قرع الطبول الذي يطرد الصمت. تبدأ الهاوية أمامي في التوهج، ضوء ناعم نابض يزداد سطوعًا مع كل لحظة تمر. يكشف الضوء عن أشكال في الظلام، أشكال ملتوية وكأنها حية. تتحرك برشاقة بطيئة ومتعمدة، أشكالها تتغير باستمرار، ولا تستقر أبدًا على شكل واحد لفترة طويلة.

أدركت فجأة أن هذه الأشكال ليست مجرد أنماط عشوائية في الظلام. إنها قصص، قصص لم تُروَ من قبل، قصص ضاعت في الزمن، قصص تنتظر أن تولد. شعرت بطفرة من الإثارة، وإحساس بالهدف لم أشعر به منذ ما يبدو وكأنه أبدية. اقتربت منها، محاولاً سماع الكلمات التي تهمس بها هذه القصص، وفهم الأسرار التي تحملها.

ولكن ما إن بدأت أفهم الأشكال، وما إن بدأت الكلمات تتشكل في ذهني، حتى خفت الضوء، وعاد الظلام. فأجد نفسي واقفاً على حافة الهاوية، وقلبي مثقل بثقل القصص التي لن أعرفها أبداً، القصص التي انزلقت من بين أصابعي مثل حبات الرمل.

لقد اختفى الشخص الذي كان يحمل المرآة، وفي مكانه يقف باب بسيط غير مبالٍ من الخشب يبدو وكأنه صمد أمام ألف عاصفة. ثم ينفتح الباب صريرًا، وخلفه أرى عالمًا يغمره ضوء ذهبي خافت، عالم يبدو بعيدًا ومألوفًا في الوقت نفسه. فأتقدم خطوة إلى الأمام، ثم خطوة أخرى، حتى أقف عند العتبة، ويدي ترتكز على مقبض الباب.

أتردد، وعقلي مليء بالأسئلة التي ليس لها إجابات، والشكوك التي لا مبرر لها. ولكن شيئًا عميقًا في داخلي يتحرك، صوت يخبرني بالاستمرار، والخطو عبر الباب واحتضان كل ما يكمن وراءه. وهكذا، وبنفس عميق، أدفع الباب مفتوحًا وأخطو إلى النور.


0 التعليقات: