الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 31، 2024

"ذات الفستان الأبيض" نص مفتوح : عبده حقي


الأشجار ترتجف مثل الساعات في منتصف الليل، وتهمس بأسرار للريح . وتحت أنفاس الدوامة، كانت ألف عين تومض في انسجام، وتنفتح أجفانها لتكشف عن منظار متعدد الألوان لأبراج قديمة.

كانت هناك فتاة، ليست أكثر من ذكرى مرتدية فستانا من الكتان، ترقص على الدوامة. كان شعرها نهرًا من القصص غير المروية، وكل خصلة من شعرها تشكل رافدًا يغذي بحر الأحلام الذي يقع خلف خط الأشجار مباشرة. لم تكن الخيول على الدوامة خيولًا بل ألغازًا - كل منها محفور من رخام وعود الأمس. كانت حوافرها تقطر بحبر حكايات غير مكتوبة، تلطخ التربة بأصداء لغة ضاعت مع الزمن.

في البعيد، هناك برج بني من تنهدات البائسين يمتد نحو السماء، جدرانه من لبنات أفكار رقيقة كالورق. ومن نوافذه، كانت الظلال التي لا وجه لها تراقب الدوامة وهي تدور، وكانت أشكالها تومض مثل اللقطات الأخيرة من فيلم صامت. كان الهواء كثيفًا بطعم المطر القديم، كل قطرة دمعة ذرفها القمر في قرن منسي.

ساعة بلا أرقام تتدلى من أدنى فرع من أقدم شجرة، وكانت عقاربها تشير إلى لا مكان، في كل مكان. كانت تدق على إيقاع أغنية لا يتذكرها أحد لكن الجميع يعرفونها. كان اللحن ينسج في الهواء مثل خيط من الفضة، يربط المشهد معًا في نسيج من الذكريات المتفرقة والأحلام المكسورة.

مدّت الفتاة يدها لتلمس أحد الألغاز، فلامست أصابعها الرخام البارد. ارتجف اللغز تحت لمستها، وتحول شكله إلى شيء آخر ــ جسر ممدد من الأسئلة بلا إجابات. خطت على الجسر، وكانت كل خطوة صدى يتردد عبر نسيج العالم ذاته. وتحتها، اتسعت الهاوية، وفم مليء بالنجوم التي همست باسمها بصوت لم تسمعه قط ولكنها تعرفت عليه.

وعلى الجانب الآخر من الجسر كان هناك باب بلا رتاج، وقد نقش على سطحه رموز ترقص مثل اليراعات في الشفق. كانت الفتاة تعلم أنها رأت هذه الرموز من قبل، ربما في حلم حيث كانت السماء مرآة تعكس أعماق روحها. ضغطت بيدها على الباب، فانفتح مع تنهيدة، ليكشف عن غرفة واسعة ومحدودة، لا نهاية لها.

كانت الغرفة مليئة بالمرايا، كل واحدة منها تُظهر قامة مختلفة من الفتاة - بعضها أكبر سنًا، وبعضها أصغر سنًا، وبعضها ليس بشرا على الإطلاق. كانت المرايا تحدق فيها بعيون تحمل مجرات، وانعكاساتها تدور حول حكايات كانت لها ولغيرها. كانت تمشي بين المرايا، وخطواتها صامتة على الأرض التي لم تكن أرضًا بل لوحة تنتظر أن تُرسم بألوان أفكارها.

لفتت إحدى المرايا انتباهها، فبدأ سطحها يتلألأ مثل الماء الذي ارتطم بحجر. اقتربت أكثر، وتشوهت صورتها حتى لم تعد فتاة بل متاهة من الضوء والظل. مدت يدها لتلمسها، وتحولت المرآة إلى سحابة من اليراعات التي ملأت الغرفة بضوئها الناعم المتوهج. همست لها بأسرار، أسرار لم تكن أسرارًا بل حقائق منسية في ضباب الحياة اليقظة.

بدأت الغرفة تتلاشى من حولها، وتلاشت الجدران في الأثير بينما حملتها اليراعات إلى الأعلى، إلى الخارج، إلى الداخل. ووجدت نفسها واقفة على حافة جرف، والأرض تحتها تنهار في الفراغ. وفي المسافة، رأت الدوامة لا تزال تدور، والألغاز ترقص الآن بمفردها، خالية من قيود الشكل والمادة.

ظهرت سيدة بجانبها، طويلة ونحيلة، وجهها مخفي تحت غطاء الليل. تحدثت إليها بصوت لم يكن صوتًا بل حفيف أوراق الشجر في ريح الخريف. أخبرتها أن العالم سينتهي ويبدأ، وأن الوقت دائرة وخط، وأنها الحالمة والحلم في نفس الوقت. أومأت الفتاة برأسها، متفهمة دون فهم، وعارفة دون معرفة.

مدت السيدة يدها، فأخذتها، وشعرت بدفء ألف شمس في لمستها. وخرجا معًا من الجرف، ولم يسقطا بل طافتا، ولم هبطتا بل ارتفعتا. ومضت النجوم فوقهما في تناغم مع إيقاع الأغنية التي ما زالت تعزف في الهواء، تهويدة لنهاية العالم، ترنيمة لميلاد عالم جديد.

وبينما كانتا تطفوان، بدأ العالم من حولهما يتغير. انقلبت السماء رأسًا على عقب، كاشفة عن طبقات السطيحة المخفية التي تكمن تحت الأرض. أصبحت الأشجار أعمدة من النور، والأرض نهرًا من النجوم. توقفت الدوامة عن الدوران، وذابت ألغازها في الهواء مثل الضباب عند الفجر.

طفت الفتاة والسيدة أعلى وأعلى حتى لم يعودا في العالم بل أصبحا خارجه، في مكان فقدت فيه الكلمات معناها وأصبحت الأفكار حقيقة. نظرت الفتاة إلى السيدة، وللمرة الأولى رأت وجهها - وجهها، ينعكس عليها، لكنه مختلف، أكبر سنًا، وأكثر حكمة.

ابتسمت السيدة، وشعرت الفتاة بسلام لم تعرفه من قبل. أغمضت عينيها، وعندما فتحتهما مرة أخرى، كانت قد عادت إلى الغابة، واقفة بجوار الدوامة. اختفت الشخصيات في البرج، ولم تعد الساعة تدق، وكان الهواء ساكنًا.

استدارت لتغادر، ولكن عندما فعلت ذلك، شعرت بسحب في قلبها، سحب نحو الدوامة. نظرت إلى الوراء، وهناك، واقفًا على حافة الدوامة، كان هناك شخص يراقبها بعينين تحملان أسرار الكون. ابتسمت، وبإيماءة أخيرة، ابتعدت، تاركة الدوامة والغابة خلفها، وهي تعلم أنها ستعود ذات يوم عندما تصطف النجوم ويكون العالم مستعدًا لها مرة أخرى.

0 التعليقات: