الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، أغسطس 20، 2024

"صمت البحر" قصة قصيرة : عبده حقي


كانت النجوم تتساقط كقطرات من الزئبق على سطح مياه البحر الهائج، وكان هناك رجل يجلس على صخرة تطل على هذا المشهد الكوني المهيب. لم يكن هذا الرجل سوى الفيلسوف جون، الذي اعتاد أن يتأمل في طبيعة الوجود وكينونته. كان البحر بالنسبة له مرآة للعقل البشري، متغيرًا ومتقلبًا، ولكنه عميق بلا نهاية.

كان جون مهووسًا بفكرة معينة تدور في ذهنه كرحى لا نهاية لها: "هل التجربة هي اختبار للعقلانية أم أن العقلانية هي اختبار للتجربة؟" كان يدرك جيدًا أن النظرية وحدها لا تكفي، وأن التطبيق العملي قد يكشف أوجه القصور في النظرية. ومع ذلك، كان يتساءل دائمًا: هل النظرية موجودة من أجل التطبيق، أم أن التطبيق هو من أجل النظرية؟

وفي تلك الليلة، بينما كان الفيلسوف غارقًا في أفكاره، ظهرت فجأة أمامه شخصية غريبة في عمق البحر. كانت هذه الشخصية نصف إنسان ونصف سمكة، عيناها تتألقان بألوان مستحيلة، وأصابعها الطويلة تتلوى كأذرع الأخطبوط. بدا أن هذه الكائنة تجسد الفجوة بين النظرية والتطبيق، بين العقلانية والتجربة.

قالت بصوت مندمج مع هدير الأمواج: "لقد جئت لأرشدك إلى الحقيقة التي طالما بحثت عنها. تعال معي، وسأريك ما لا تستطيع كلماتك وصفه، وما لا تستطيع عقلك فهمه."

بلا تردد، تبعها الفيلسوف جون إلى أعماق البحر. وكلما غاصا عميقا ، ازدادت العتمة حتى تحولت إلى لون أسود مطلق. كان يشعر بأن جسده يتلاشى، ولكن عقله كان لا يزال متيقظًا، يتساءل ويحلل.

وصلا أخيرًا إلى كهف مضاء بنور غامض. في وسط الكهف، كانت هناك مرآة ضخمة، تعكس ليس فقط صورة الفيلسوف، بل كل أفكاره وأحلامه وكوابيسه. كانت المرآة تمثل عقل الفيلسوف بكل تعقيداته وتناقضاته.

قالت: "انظر إلى نفسك، ولكن تذكر أن هذه المرآة لا تعكس ما تراه عيناك، بل ما يدور في داخلك."

بدأ الفيلسوف بالتحديق في المرآة، وكانت أفكاره تتدفق كتيار من الصور المتناقضة. رأى نفسه كطفل يلعب على الشاطئ، يبني قلعة من الرمل، ثم يأتي الموج ويدمرها. رأى نفسه شابًا يبحث عن الحقيقة في الكتب القديمة، ثم يسخر من تلك الكتب عندما يدرك أنها مليئة بالتناقضات. رأى نفسه كهلاً، يتأمل في حياته ويفكر في كل الأخطاء التي ارتكبها، وكل الفرص التي ضيعها.

ولكن ما لفت انتباهه هو صورة لم يستطع تجاهلها: صورة كائنين يتصارعان بلا نهاية، أحدهما يمثل العقلانية والآخر التجربة. كان كل منهما يحاول فرض هيمنته على الآخر، ولكن لم يكن هناك فائز في هذا الصراع الأبدي. كانوا يدورون في دائرة مغلقة، كما يدور الليل والنهار.

قالت: "هذا هو جواب سؤالك. العقلانية والتجربة لا يمكن أن تنفصلا، ولا يمكن أن يتغلب أحدهما على الآخر. إنهما متشابكان كالأفعى التي تلتهم ذيلها، يدوران بلا نهاية. النظرية تحتاج إلى التطبيق لتثبت نفسها، والتطبيق يحتاج إلى نظرية ليعطي معنى. ولكن في النهاية، كلاهما لا يؤديان إلا إلى دوران لا نهاية له، كما ترى هنا."

استفاق الفيلسوف جون فجأة على شاطئ البحر، حيث كان يجلس في البداية. لم يكن متأكدًا مما إذا كان ما رآه حلمًا أم حقيقة. ولكن ما كان يعرفه هو أن أسئلته لم تعد بحاجة إلى إجابة، لأن الإجابة كانت واضحة الآن: ليس هناك جواب.

ابتسم الفيلسوف لنفسه، ونهض من مكانه. وبينما كان يمشي على الشاطئ، تلاشت خطواته في الرمال، تمامًا كما تتلاشى أفكار الإنسان في محيط الوجود.

0 التعليقات: