أستيقظ على رائحة قشور البرتقال المذابة في الهواء. يحيط بي عطرها مثل قطة تطارد ذيلها، رقصة تدور في زاوية عيني حيث ينفتح الكون، ويسكب الوقت، الوقت الذي له مذاق الملح المعدني. أحاول أن أجمعه بين يدي، لكنه ينفلت من بين أصابعي مثل الماء، وفجأة أغرق، في الماء، بل في الرمال التي لها مذاق السكر والأصوات التي تزداد ارتفاعًا كلما غرقت.
الصوت، صوتي، يهمس بأسرار لا أفهمها. ألتقط الكلمات - مربى، خسوف، باب لا يغلق - كل كلمة شظية حادة من الزجاج عالقة في الحلق. أبتلع الزجاج، وتتحول عروقي إلى أنهار من الزئبق، بارد، سريع، ومشرق لدرجة أنني لا أستطيع الرؤية. أغمض عيني، والعالم خلف جفوني عبارة عن منظار متعدد الألوان من الوجوه التي ليست لي ولكنها تستعير ابتسامتي مثل قناع مسروق. أمد يدي لألمسها، لكن يداي أصبحتا الآن ريشًا، خفيفتين وجوفاء، تطفوان إلى أعلى حيث لا يوجد سقف، فقط امتداد لا نهاية له من السماء مطلي بلون الغياب.
لا أستطيع أن
أتذكر إن كنت أحلم، ولكنني أشعر بالأرض تتحرك من تحتي، وفجأة أجد نفسي واقفًا على
حبل مشدود بقوة بين أسنان ساعتين عملاقتين. تدق عقارب الساعة وتصر، وتهدد بتقطيعي
إلى نصفين، ولكن الحبل ناعم، كخيط مسحوب من نسيج الليل، فيكشف النجوم وأنا أسير.
تتساقط النجوم من حولي كالمطر، فأجمعها وأضغطها في راحة يدي حتى تذوب في ضوء سائل
يقطر من بين أصابعي، فيحرق ثقوبًا في العدم أدناه.
أنظر إلى
الأسفل، فينظر إليّ العدم، فراغ بعينين ترمشان، ثم تغمضان، ثم تبتعدان. يسعل
الفراغ تفاحة ناضجة لامعة بندى الأحلام المنسية. أتناول قضمة منها، فيكون طعمها
كالنهايات والبدايات، مرًا وحلوًا مثل القبلة الأخيرة لعاشق. تغوص أسناني في لحم
التفاحة، لكنه ليس لحمًا - إنه خريطة، متاهة مرسومة بحبر غير مرئي لا تظهر طريق
الخروج إلا عندما أغمض عيني وأفقد نفسي في متاهة الذكريات التي ليست لي، ولكنها
بطريقة ما كذلك.
أتجول في الغرف
التي تنطوى على نفسها، كل غرفة عبارة عن مرآة تعكس نسخة مختلفة مني - طفل، ظل،
همسة، وصدى. يضحك الصدى، صوت أجوف ينعكس عن الجدران ويهز الغبار من السقف، حيث
يسقط مثل الثلج، باردًا وصامتًا، ويستقر على الأرض، ويحولها إلى بحيرة متجمدة.
أتزلج على الجليد، لكنه يتشقق، ويتحطم تحت جسدي، وأسقط، وأسقط، وأسقط في الظلام
الذي أشعر به وكأنه بيتي.
البيت بيت بلا
جدران، مجرد أبواب لا تقود إلى أي مكان وفي نفس الوقت إلى كل مكان. أخطو من خلال
أحدها فأجد نفسي في حديقة تتفتح فيها الأزهار بشكل معكوس، فتتلوى بتلاتها إلى
الداخل حتى تختفي في السيقان، فلا يبقى منها سوى الأشواك التي تنزف حبرًا. أغمس
أصابعي في الحبر، فأكتب كلمات في الهواء تختفي بمجرد كتابتها، تاركة ورائي رائحة
الحروف المنسية، رائحة تلتصق بجلدي مثل ظل ثان. أحاول نزعها، لكنها تلتصق، كفيلم
يطمس حواف الواقع حتى لا أستطيع أن أعرف أين انتهي، ويبدأ العالم.
"يتأرجح العالم، وأسقط مرة أخرى، هذه
المرة في بحر من الساعات، تدور عقاربها بسرعة كبيرة حتى أنها تتداخل في دوامة
تسحبني إلى الأسفل. أغرق في الوقت، لكن الوقت لا يرحم - يبصقني على شاطئ الصحراء
حيث الرمال زجاجية، ساخنة وحادة، تقطع قدمي بينما أسير نحو أفق لا يقترب أبدًا.
أنزف في الرمال، يتحول دمي إلى عناكب حمراء صغيرة تنتشر في كل الاتجاهات، تنسج
شبكات تمسك بالرياح وتحملها بعيدًا. أريد أن أتبعها، لكن قدمي متجذرة في الأرض،
يتحول الزجاج إلى سلاسل تلتف حول كاحلي، تسحبني إلى أسفل، إلى أسفل، حتى أدفن تحت
وطأة الصمت.
يضغط الصمت على
أذني حتى تنفجر، والصوت الذي يليه هو عواء ذئب عالق بين فكي ساعة. تطحن الساعة
أسنانها، تمضغ الثواني وتبصق الدقائق التي تهبط في حضني مثل الطيور الميتة.
أحملها، واحدة تلو الأخرى، وأحتضن أجسادها الباردة بين يدي حتى تذوب في ريش يطفو
إلى أعلى، إلى أعلى، ويختفي في السماء التي لا لون لها، ولا شكل، مجرد فراغ شاسع
يبتلع كل شيء كاملاً.
أنا وحدي في
الفراغ، لكنني لست خائفًا - هناك راحة في العدم، وسلام يأتي من معرفة أنه لا يوجد
شيء متبقي لأخسره، ولا شيء متبقي لأجده. أغمض عيني وأدع الفراغ يأخذني، يملؤني
بصمته وبرودته وسكونه اللامتناهي. أصبح الفراغ، ثقبًا أسود يبتلع الوقت والفضاء
وكل الأحلام التي لم تكن أبدًا. أنا
البداية
والنهاية، النفس الأول والأخير، دائرة ليس لها بداية ولا نهاية، مجرد حلقة لا
نهاية لها من الوجود، حلقة لا يمكنني الهروب منها ولكن لا أريد ذلك، لأنه في
الفراغ، أنا كل شيء ولا شيء في آن واحد.
وهكذا أبقى،
أدور في الظلام، صرخة صامتة يتردد صداها في الفراغ، صرخة لا يسمعها أحد، حتى أنا،
لأنني الفراغ، والفراغ هو أنا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق