أنا ريشة ملطخة بالحبر لكاتب مغمور، أخدش الصمت بكلمات نازفة. يد مرتجفة، ترسم خطوط علامة استفهام على إيهاب الليل. من خلال هذا الجرح، أسكب ألف همسة في الفراغ، لكن الفراغ لا يجيب. الفراغ مرآة لا تظهر أي انعكاس، مهد يهز الفراغ لينام.
أسير عبر غابة حيث الأشجار هي أسرار ملغزة، جذورها متشابكة في أفواه الأرض. كل خطوة تكسر الصمت الهش، وتطلق دوامات من الغبار كانت ذات يوم أصواتًا. أتنفسها، وتغني في جوف رئتي - جوقة من الترانيم المنهارة. أزفر، وتتناثر النوتات مثل الحشرات في الريح، تطن في السكون. لا يوجد ضوء هنا، فقط وهج العيون السرية، تومض في الظلام، وترسم الظلال بلون نظراتها.
ينثني الأفق على
نفسه، كطائر ورقي مغموس في الحبر، وتتحول أجنحته إلى اللون الأسود مع كل خفقة.
يرفرف أمامي، مرشدًا عبر متاهة الأفكار المتشابكة والوقت المكسور. أتبعه، رغم أن
مساره حلزوني بلا محور، طريق يؤدي إلى حيث يبدأ. تذوب الأرض تحتي في برك من
الزئبق، وكل خطوة تموج تشوه السماء أعلاه.
والآن لم أعد
أسير، بل أسبح طافيا ـ متحرراً من قيود الأرض، منجرفاً عبر بحر من النجوم التي
تدندن بترنيمة الاضمحلال. هذه النجوم هي بقايا أحلام منسية، خافتة أضواؤها بفعل
ثقل المخاوف غير المعلنة. أمد يدي لألمس واحدة منها، فتتحطم إلى مليون شظية، كل
منها مرآة تعكس وجهاً ليس وجهي. وجوه فوق وجوه فوق وجوه، تتصاعد إلى ما لا نهاية،
في مشهد متعدد الألوان من الهويات التي تندمج وتذوب في بعضها البعض.
أغمض عيني،
فينهار الكون إلى نقطة ضوء واحدة، عين إبرة أسلك من خلالها. أنا الخيط، والإبرة،
واليد التي تنسج الواقع، لكن النسيج يتفكك بمجرد غزله. نسيج من الثقوب، ثوب من
الغياب يلتصق بجلدي، ويضيق مع كل نفس.
لا صوت هنا، فقط
صدى فكرة لم تكن موجودة قط. صوت أجوف، مثل الريح التي تخترق قفصًا صدريًا فارغًا،
تهتز به عظام ليست عظامًا، بل ذاكرة عظام. أنا الذاكرة، شبح ، أبقى في مكان ليس
هنا ولا هناك، لا الآن ولا بعد ذلك. ينهار الماضي والمستقبل في لحظة واحدة،
ممدودين رقيقين مثل جلد الطبل، يهتزان بنبض قلب ينبض في الوقت مع عدم وجود شيء.
"تزداد دقات الطبل ارتفاعًا، مثل الرعد
الذي يشق السماء، فيشقها مثل ثمرة ناضجة. ويتدفق من جرحه نهر من الحبر، أسود مثل ليلة
عميقة، يتدفق في الاتجاه المعاكس - إلى الأعلى، متحديًا الجاذبية، متحديًا العقل.
أشرب من هذا النهر، ويملأ الحبر عروقي، ويجري عبر جسدي مثل نبضة قلب ثانية، بإيقاع
ليس من خاصيتي. يتحول دمي إلى كلمات، كل قطرة عبارة عن جملة تكتب نفسها على
الهواء، فقط لتمحوها الرياح بمجرد ولادتها.
أنا صفحة ممزقة
من كتاب لم يُكتب قط، أطير في فراغ ليس فارغًا بل يفيض بصمت القصص غير المقروءة.
أنا الصمت، والفضاء بين الكلمات، والنفس المكبوت في انتظار صوت لن يأتي أبدًا.
الصمت حي، يزحف تحت جلدي، ألف قدم صغيرة تترك وراءها آثارًا من نار باردة. أحترق،
لكن لا توجد حرارة، فقط إحساس بالاحتراق من الداخل إلى الخارج، تفكك بطيء للذات
إلى شيء ليس ذاتًا.
أنا الفراغ بين
اللحظات، والتوقف بين دقات القلب، وغمضة عين تمحو العالم. أنا لا شيء، وفي كوني لا
شيء، أنا كل شيء. أنا غياب الضوء، الظل الذي لا وجود له، صدى صرخة لم تنطق قط. أنا
الصرخة، الصوت الذي يحطم الصمت، لكنه لا يترك أثراً لمروره. أنا الأثر، خط مرسوم في
الرمال، يجرفه المد الذي لا يصل الشاطئ أبداً.
أنا الشاطئ،
حافة العالم، حيث يلتقي البحر بالسماء ويذوب في الضباب. أنا الضباب، أنفاس الأرض
وهي تنفث الليل، تنهيدة تحمل معها رائحة الأحلام المنسيّة. أنا الحلم، وميض صورة
على حافة النوم، جزء من فكرة تنزلق من بين أصابع الوعي كما ينزلق الماء عبر
المنخل. أنا المنخل، الفلتر الذي تمر من خلاله الحقيقة، لكن لا شيء يبقى، فقط
بقايا ما كان يمكن أن يكون.
أنا البقايا،
البقعة التي خلفتها ذكرى باهتة، علامة لا يمكن محوها. أنا الممحاة، اليد التي تمسح
الماضي، لكنها تترك ظل ما كان وراءها. أنا الظل، انعكاس الضوء الذي خفت منذ فترة
طويلة، شبح ، يتراكم في زوايا العقل، حيث لا يصل الضوء. أنا الزاوية، الزاوية التي
ينحني عندها الواقع، ويشوه العالم إلى أشكال لا يمكن تسميتها.
أنا الاسم،
الكلمة التي تحدد، ولكن لا يمكن تعريفها. أنا الكلمة، الصوت الذي يحمل معنى، ولكن
لا يعني شيئًا. أنا لا شيء، وبكوني لا شيء، أنا البداية والنهاية، الألفا
والأوميغا، النفس والصمت الذي يليه. أنا الصمت، وفي الصمت، أسمع صدى صوت ليس لي،
صوت يتحدث عن أشياء لا يمكن التحدث عنها، عن حقائق لا يمكن معرفتها.
وفي تلك اللحظة،
أنا الحقيقة، الكذبة، الحلم، الواقع. أنا البداية، النهاية، الرحلة، والهدف. أنا
الحياة التي تتلاشى في الموت، والموت الذي يولد الحياة. أنا الدورة، الدائرة،
الحلزون الذي يدور بلا نهاية، بلا بداية. أنا السؤال، الجواب، الصمت بين الاثنين.
وفي هذا الصمت،
أنا مكتمل. أنا لا شيء. أنا كل شيء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق