الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، سبتمبر 09، 2024

"سراب لا يرحمني" نص مفتوح : عبده حقي


يرتجف الجسد تحت وطأة غير مرئية. يد تلوي النخاع، تنبض، مريضة بإيقاع الملاحقات التي لا تنتهي. أسمعها تصرخ. لا يوجد صمت، فقط عواء فراغ شاسع لا يمكن التفكير فيه. يتشقق جلدي، لكن لا ينسكب الدم، فقط أصداء الضحك - ضحك يخدش مثل الفولاذ المحطم عبر عقل جائع. أجبر على التحرك، لاختراق جدران من اللحم والغبار. ومع ذلك، فإن كل خطوة تجرني بعيدًا من حيث أتيت، دوامة إلى الهاوية التي لا توصف، حيث النجوم ليست سوى عيون ملقاة لآلهة ميتة. ينحني الوقت، ويتقلص، ويصبح فمًا يلتهم نفسه.

الألم ليس لي؛ إنه ألم العالم، وحش متلوٍ يخدش بطنه. أريد أن أصرخ، لكن صوتي تبتلعه حنجرة الوجود. أمزق أفكاري، وأفك خيوطها التي لا تؤدي إلى شيء، بينما يصبح الهواء كثيفًا، وكأنه يخطط لخنقي. هذه هي الحياة، مسرح هذياني حيث يُحكم على الممثلين بأدوار لم يختاروها. حيث يصفق الجمهور، ولكن فقط لأنهم نسوا كيف يكون الصمت.

يتدفق نهر من المرايا عبر عروقي، وكل موجة تعكس نسخة من نفسي لا أعرفها. أطارد الانعكاس، فقط لأتعثر على أنقاض مدينة لم أبنها قط. تتحدث الشوارع بالألغاز، والحجارة التي كانت تنتمي ذات يوم إلى المعالم الأثرية تقع الآن كأساس لمقابر منسية. تنهيدة صدري، تلتف على شكل طائر، لكنه لا يطير - يتدحرج إلى أسفل، وكأن الجاذبية ولدت من الحزن. الشمس هنا عبارة عن تشابك من أسلاك، كهربائية، حادة، تقطع السماء مثل شفرة على جلد هش.

ألمس الأرض، أشعر بها ترتجف تحت أطراف أصابعي، وكأن الأرض نفسها ترتجف خوفًا مما قد يأتي. تتلوى المباني، وكل نافذة عبارة عن عين ترفض الرمش، مرعوبة من الظلام الكامن خلف الأفق. لكن الأفق ليس سوى وهم، خط مرسوم بيد مرتجفة للغاية بحيث لا يمكنها إنهاء المهمة. نحن نعيش في أجزاء، غير مكتملة أبدًا، وغير مكتملة أبدًا - نتجول بين ظلال الرغبة وغبار الواقع، مشتاقين إلى سماء لا يمكنها أن تحتوينا.

أغمض عيني، فيتساقط العالم كالشمع، ويتحول إلى أشكال تتنفس وتنبض. تطن الأشجار بأصوات لا أفهمها، وتتلوى جذورها في نسيج أفكاري، وتربطني بذكريات لم أعشها قط. في مكان ما، بعيدًا، أو ربما بداخلي، تدق الساعة إلى الوراء. ينكشف الوقت مثل خيط مسحوب من نسيج منسوج في الأحلام. أركض، لكن ساقي تذوبان في الدخان، تاركة ورائي ظلًا ليس ظلي. تتلوى الشوارع على نفسها، متعرجة، تبتلع المنازل والناس، حتى لا يبقى شيء سوى صوت خطوات تتردد من العدم.

يتدلى القمر منخفضًا، منتفخًا بالأسرار، وكأنه حامل بثقل رغبات غير منطوقة. أمد يدي إليه، وتمتد أصابعي أكثر مما ينبغي، فقط لأمسك بالهواء. تحت بشرتي، يتحرك شيء ما - مخلوق غريب، مضطرب، يبحث عن مخرج. وأتساءل، هل هذه هي الحياة؟ هل انزلقت بين شقوق الواقع، حيث لم تعد القواعد تنطبق؟ لا أستطيع أن أجزم بعد الآن. لقد طمس الخط، ونسيت ما يعنيه أن تكون مستيقظًا.

هناك غابة تهمس كل شجرة فيها باسمك. أتجول فيها، ضائعًا ولكن ليس خائفًا. الأوراق مثل الورق، تتجعد تحت وطأة الوعود المنسية. فوقي، السماء عبارة عن بطانية من اليراعات، تومض الأسرار التي أحاول دفنها. كل خطوة أخطوها تقودني في دوائر، لكنني لا أهتم - ليس لدي مكان أذهب إليه. تقبّل الريح وجهي، ناعمة ولطيفة، مثل ذكرى حب لم يكن موجودًا أبدًا. ينقسم المسار أمامي إلى اثنين، ثم ثلاثة، ثم لا نهاية له، حتى تصبح الخيارات بلا معنى.

أغمض عيني وأشعر بثقل العالم يتحول، وكأن الأرض تحتي ليست أكثر من وهم. وفي تلك اللحظة، أكون حرًا. حرًا من ثقل التوقعات، حرًا من جاذبية الوقت. أنا لا شيء وكل شيء، مجرد ذرة من الغبار تطفو عبر الفراغ اللامتناهي. أمد يدي لألمس الهواء، فيذوب تحت أطراف أصابعي، مثل الجليد تحت أشعة الشمس الحارقة. يختفي الواقع، لكنني أتمسك به بفكرة واحدة - فكرة تختفي قبل أن أتمكن من إعطائها معنى.

تسبح سمكة فضية في الهواء، تاركة وراءها شرائط من الضوء تتلألأ وتتلاشى. تتحدث، لكن الكلمات تسقط من فمها في شظايا متعرجة، كل منها تخترق الصمت. أحاول التقاطها، لكنها تذوب في الدخان قبل أن أتمكن من إغلاق يدي. يتكاثف الهواء من حولي، ويصبح سائلاً لا أستطيع تنفسه، لكنني لا أكافح. أتركه يملأ رئتي، وأعلم أنه مجرد حلم. أو ربما أنا الحلم، خيال عقل نسي منذ فترة طويلة كيف يستيقظ.

تنبض الجدران من حولي بالحياة، وتتحول، وتنحني، وكأنها لم تكن لتكون صلبة أبدًا. أمشي من خلالها، إلى فضاء لا يوجد فيه وقت. لا توجد ساعات هنا، ولا دقات ثوانٍ تتسلل بعيدًا. فقط همهمة الكون الناعمة بينما يدور في دوائر لا نهاية لها، يطارد معنى لا يمكن العثور عليه أبدًا. أبتسم، لكن الابتسامة ليست لي - إنها تنتمي إلى السماء، إلى النجوم التي تومض واحدة تلو الأخرى، وكأنها سئمت من المشاهدة. أريد أن أتبعها، لكن قدمي متجذرة في الأرض، مقيدة بثقل عالم يرفض التخلي عنها.

يتكشف الليل مثل زهرة سوداء، بتلاتها غارقة في الصمت. أقف على حافة الكون، أشاهد النجوم وهي تسقط، واحدة تلو الأخرى، في الهاوية. كل نجمة هي سؤال بلا إجابة، تحترق بنار الأحلام المنسيّة. أمد يدي إليها، لكن يدي مقيدة بخيوط غير مرئية، خيوط تنسج نفسها في نسيج بشرتي. تهمس الريح بالأسرار في أذني، لكنني لا أستطيع فهم لغتها - إنها تتحدث عن عوالم أبعد من ذلك، حيث السماء ليست زرقاء بل قرمزية، والأنهار تجري مع الوقت، وليس الماء.

أمشي، لكن الأرض تحتي تتحرك مثل الرمل، تنزلق من بين أصابعي مع كل خطوة. الهواء مثقل برائحة اليأس، حلوة وخانقة، مثل عطر يضعه حبيب لم يكن موجودًا قط. أستنشقها، وأدعها تملأ رئتي وعقلي، حتى لا يتبقى شيء سوى ثقل الوجود الذي يضغط عليّ، يضغط عليّ. تشرق الشمس، لكنها لا تجلب أي ضوء - فقط ظلال تمتد عبر الأفق مثل الوعود المكسورة. أغمض عيني، وفي الظلام، أرى كل شيء. كل شيء، ولا شيء على الإطلاق.

0 التعليقات: