يطن السهم. ليس عبر الزمن ولكن عبر صدر النهار المفتوح، عبر الألم الأخضر لضوء الظهيرة. يجده واقفًا على جانب الطريق، رجل ربما ينتظر حافلة أو لافتة، وكأن الأرض همست في أذنه. لكن سهم كيوبيد أعلى صوتًا، أعلى صوتًا من اسمه، الذي يبدو وكأنه يطفو فوقه، غير ملتصق بالجسد، بل يطفو. تتأرجح الأشجار وتضحك مثل النساء العجائز، ويصبح الهواء بينه وبين الأرض رقيقًا، مغزولًا بأفكار حريرية ترفض الخلود للراحة. السماء بلون الحليب الذي ترك طويلاً على المنضدة، مائلًا قليلاً، ووعدًا بشيء مخفي على مرأى من الجميع. يحبس أنفاسه، ويتساءل عما إذا كانت لعبة شد الخيط هي نفس شد النجوم. لا توجد إجابة سوى صوت الأجنحة وهي تضرب ضد الطنين.
هي كانت تعتقد
أن الحب سيأتي ناعمًا، مثل السكر المذاب في كأس الشاي المغربي، لكنه كان صرخة
حريق. اخترق ذلك السهم، الأكثر حدة من لسانها، الهواء، ممزقًا إيقاع خطواتها.
تحركت بإيقاعات تردد صداها في نبضها، لكن الآن، شيء آخر: مقطوعة من المعدن ضد
الريح، ويمكنها أن تشعر به يقترب. هو هبط خلفها مباشرة، لا يلامس الجلد ولكنه يشق
شيئًا أعمق، شيئًا لا يملكه الجسد. لا يرى الحشد على الرصيف ذلك، لكنها تشعر به
مثل أغنية داخل ضلوعها. يصل الحب بضجة، وليس الحلاوة التي تعلمت أن تتوقعها.
الهواء كثيف بالنوتات التي لا تستطيع غنائها، ويداها تصفقان على وركيها لا تستطيع
تحريكهما. الحب، أم هو الحب؟ يلتصق السؤال بحلقها مثل السهم في الريح، وتقف هناك،
في منتصف الخطوة، تنتظر السطر التالي.
لا توجد جبال
هنا، لكن الأرض تنتفخ تحت قدميها، رافضة القصة المخطوطة لها. يشق السهم طريقه عبر
السماء، من خلال أغنية لا تعرفها ولكنها سمعتها دائمًا خلف عظام صدرها . البحر
يتذكر. وهي تحلم بالأمواج رغم أنها لم ترها قط، تحلم بالملح رغم أن لسانها لم
يتذوقه أبدًا. يمر السهم، وترتجف الأرض، وتتشقق ليس من الحزن، ولكن من صوت مائة
صوت ينادون باسمها. من يرسل هذه الرسائل عبر السماء؟ يبدأ قرع الطبول في المسافة،
ليست مصنوعة من الجلد أو الخشب، ولكن من شيء آخر، موسيقى تولد من الهواء والغبار.
تمشي إلى الأمام. كل خطوة أصبحت أثقل الآن، ليس بالوزن، ولكن بالتاريخ. يد لا
تعرفها تسحبها، صوت لا يتكلم يهمس في أذنها. إنها متعددة، وهي واحدة، والسهم ليس
لها ولكن من خلالها، ينحت مسارًا إلى حيث تخفي الشمس أسرارها.
لم يعد السهم
سهماً. إنه ثعبان ملتف في قوس طيرانه، لمسة عابرة من النار والحجر. ينحني، ويلتوي،
ولا يترك وراءه أثراً بل باباً، فتحة حيث لم يكن هناك شيء من قبل. ومن خلال هذا
الباب يأتي صوت الماء، ليس من نهر أو جدول، بل من النجوم نفسها، يقطر الضوء على
الأرض، ببطء وعمد مثل ضحكات الآلهة الغابرين. الرجل الذي يراقبها لا يعرف ما إذا
كان مستيقظاً أم يحلم، ما إذا كان السهم موجوداً خارج عقله. في المسافة، يرى برجاً
مبنياً ليس من الحجر ولكن من الدخان، يتصاعد إلى سماء مستحيلة السماء الثامنة. يشق
السهم طريقه نحوه، ولا ينهار البرج إلى غبار بل إلى شيء متوهج، شيء يأكل الظلام من
حوله. فراشة، أو ربما طائر، يومض ويختفي من مشهد رؤيته. يمد يده إليها، لكن يده
تمر من خلالها كما لو أن الهواء ليس هواءً، والوقت ليس وقتاً.
السهم معلق في
الهواء، معلقً مثل فكرة قبل أن تنطق بها. قد يسقط في أي لحظة، وقد يجد هدفه، أو
يختفي ببساطة في الصمت الذي أتى منه. ترتجف الأرض تحت ثقله، رغم أنه لا يلمسها
أبدًا. يتقدم الرجل، لكن المسافة بينه وبين السهم تظل كما هي. يتساءل عما إذا كان
السهم ينتظره، أم أنه هو الذي ينتظر. هي تراقب السماء شاحبة وغير مبالية، كخلفية
للحظة ترفض أن تنتهي. السهم ليس سلاحًا؛ إنه سؤال. ليس موجهًا إليه ولكن إلى
المساحة بين الفكر والفعل، إلى الفجوة التي تتسع في اللحظات التي نختار ألا
نلاحظها. يتنفس، ويبدو العالم أبطأ. يمد يده - ليس ليلمس ولكن ليشعر بالهواء يتحول
من حوله، ليتذوق التوتر الذي يهتز بين أصابعه. ومع ذلك، ينتظر سهم كيوبيد.
حبيبي، هذا
السهم لا ينتمي إليك، لكنه قادم إليك على أي حال. لا مكان للاختباء عندما تعرف
الريح اسمك. يصفر السهم بصوت منخفض، مثل طائر السجن الهارب، مثل الطريقة التي
اعتادت بها أمي أن تهمس عندما كانت تعتقد أن لا أحد يستمع. هذا السهم يخترق أكثر
من الهواء، يخترق الزمن، يخترق الدم والعظام، حتى تُترك واقفًا في منتصف شارع لا
تعرفه. تمد يدك إليه، معتقدًا أنك تستطيع الإمساك به، معتقدًا أنك تستطيع إيقاف ما
بدأ بالفعل. لكنه ينزلق من بين يديك، زلقًا مثل كذبة بلقاء، مثل وعد قطع تحت سماء
لا تتذكر وجهك. تضحك، لكن الصوت ليس صوتك. ليس صوت أحد. إنه صوت شيء قديم، شيء كان
هنا قبلك بوقت طويل. تحاول التراجع، لكن قدميك لا تتحركان. تحاول الابتعاد، لكن
عينيك تظلان ثابتتين على هذا السهم، معلقًا هناك في السماء، ينتظر نهاية القصة. في
انتظار النفس التالي، والنبض التالي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق