الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 12، 2024

وطن هذا أم خارطة حلم؟ نص مفتوح : عبده حقي


إننا نتسلل دوماً عبر أذرع الزمن، ونسقط من رحم أمهاتنا كالهمسات الهاربة من فم مغلق. نعم، نحن منفيون من دفء الطفولة حيث كان الضحك يلفنا ذات يوم كالدخان، والآن تبدد. الذكريات تتدلى ثقيلة مثل قطعة قماش مبللة فوق أكتافنا، تضغط على أضلاعنا.

لقد كانت السعادة الخاصة سراباً اتبعناه طويلاً، فقط لنكتشف أنه يتبدد مثل الضباب قبل أن نصل إليه. السلام، طائر عابر، لا يرتاح إلا في الفراغات بين الأنفاس، وحتى حينها، يرفرف بعيداً عندما نرمش. حياتنا ملفوفة بنسيج من لحظات ضائعة، ونحن نتشبث بحوافها المهترئة، محاولين إيجاد معنى لكل ذلك.

أمامنا طريق متشابك ومظلم. نسير فيه بخطوات مترددة، والأرض تتحرك تحت أقدامنا كالرمال. كل صوت هو همسة عما كان، وما كان يمكن أن يكون. لا يوجد أمام ولا خلف، فقط الحاضر، ممتدا بلا نهاية وينطوي على نفسه مثل أجنحة طائر غير مرئي.

القمر لا يضيء هنا، بل يطن ويهتز كبطاقة لا نستطيع تسميتها. ننظر إلى السماء، ولكن لا توجد نجوم. فقط صدى خافت لضوئها، الذي اختفى منذ زمن بعيد ولكنه لا يزال يتردد في زوايا عقولنا.

ما كنا نسميه ذات يوم وطنًا أصبح حلمًا لا يمكننا العودة إليه. منفيين من الأرحام، من الضحك، من السلام - رحلتنا هي سؤال لن يجد إجابة أبدًا، صدى لن يتلاشى أبدًا.

هكذا تبدأ الأمور: خفقان مثل العث تحت الجلد، وإلحاح لا يمكن وضعه. لم يكن الرحم دافئًا أبدًا، بل كان مجرد عتبة، نافذة نسقط من خلالها، متشبثين بستائر الطفولة. نحن منفيون، خارج أنفسنا إلى الأبد، نضغط على الحدود غير المرئية لما كان، وما كان يمكن أن يكون. تبحث أعيننا عن السلام، لكن كل ما نجده هو ظلال تتحرك عندما لا ننظر، ومضات من الفرح الخاص تتلاشى في اللحظة التي نتعرف عليها.

لا تتحدث الأشجار هنا؛ فهي تدندن بترددات لا نستطيع سماعها، وتتدحرج أوراقها إلى الأسفل، فتتحول إلى أيادٍ لا تلمس الأرض أبدًا. يتغير شيء ما في زاوية رؤيتك ــ لا تنظر عن قرب شديد، وإلا ستفقدها. الواقع مسام، والوقت لعبة لم نتعلم أبدًا أن نلعبها.

لا توجد أم هنا، ولا دفء، ولا عودة. فقط تجوال لا نهاية له، منفي من حلم إلى آخر.

لقد ولدنا من تنهيدات، وطُرِدنا من الرحم كقطرات مطر تُلقى على النافذة، فقط لننزلق بعيدًا دون أن يلاحظنا أحد. في المنفى، أصبحت أجسادنا مجرد شظايا متناثرة عبر مشهد رغباتنا المنسية. لم تعد هناك طفولة، فقط صداها الخافت - أغنية قديمة لا نستطيع تذكرها، على الرغم من أن اللحن لا يزال باقيًا. لقد أصبحت السعادة طائرًا يحوم بعيدًا عن متناول القفص، تقطر أجنحته بالشفق.

نتقدم للأمام ولكن كل خطوة تذوب في الخطوة التالية، فتطمس الحدود بين ما هو كائن وما كان. الهواء كثيف بسبب الغياب، والأشجار تنزف ألوانًا لم نخترعها بعد. نمد أيدينا، متمسكين بالوعود الفارغة - الوعود التي تتلألأ مثل الذهب في المسافة ولكنها تتحول إلى غبار عندما نلمسها.

السماء ليست سماء، بل بحر واسع من الكدمات، تتكسر أمواجه بصمت فوق رؤوسنا. النجوم التي كانت مشعة ذات يوم، ترتجف الآن مثل الجمر المحتضر، مترددة في الاختفاء. طريق متعرج أمامنا، لكن اتجاهه غير واضح، يذوب في برك من الحبر بمجرد محاولتنا تتبعه. كلماتنا أيضًا أصبحت سائلة، تنزلق من ألسنتنا فقط لتتبخر قبل أن تصل إلى الهواء.

نحن منفيون من ذواتنا، نتجول بلا هدف بحثًا عن وطن لم يكن موجودًا قط. السلام حلم كنا نؤمن به ذات يوم، لكنه الآن أصبح أيضًا غريبًا، ذكرى بعيدة مطوية على نفسها. يتغير المشهد باستمرار، وينحني تحت وطأة شوقنا، وشوقنا اللامتناهي لشيء لا نستطيع تسميته.

وفي البعيد نسمع همسات خافتة، صوت ينادينا من وراء الأفق. إنه يتحدث عن الراحة والهدوء، لكننا نعرف أنه من الأفضل ألا نستمع. نحن مسافرون في عالم لا يوجد فيه هدوء.

لم نولد من الجسد، بل من الصمت، وسقطنا على كوكب العالم، مدفوعين إلى الأمام بأنفاس النجوم المنسيّة. نحن منفيون، نتجول إلى الأبد بين الذكريات والأحلام، ونتسلل عبر مساحات أصغر من أن تحتوينا. كانت الطفولة مكانًا تلعب فيه الظلال، والآن نطارد خطوطها العريضة، ونعلم أنها تتلاشى على حافة رؤيتنا.

لا يوجد سلام، فقط لحظات تدور بلا نهاية، دوامة من الضحك والحزن لا تتوقف أبدًا. السماء أعلاه تومض مثل بكرة فيلم قديمة، كل لقطة تدور في حلقة، ولا تتوافق أبدًا مع اللقطة التالية.

نحن لسنا حيث ننتمي ـ أين ذلك المكان؟ سؤال بلا إجابة. الطريق يمتد، متعرجًا، مطويًا، يختفي في ذاته. نحن مجرد صدى لخطوات، نتحرك عبر عالم لم يعد يعرف أسماءنا.

الرحم لم يكن بيتاً قط، بل كان ممراً فقط، باباً بلا إطار. نحن منفيون، نطفو في الفراغات بين الأيام، حيث تتلاشى الطفولة مثل صورة تركت طويلاً تحت الشمس.

السعادة عبارة عن فراشة معلقة على الحائط، ترفرف أجنحتها في أحلام لم نعد نتذكرها.

السلام؟ همهمة بعيدة، دائمًا ما تكون خلف الأفق، وتختفي دائمًا.

لا توجد أرض تحتنا، فقط إحساس بالسقوط، السقوط إلى الأبد. ينحني الوقت مثل القصب في مهب الريح، ونحن ننجرف عبر منحنياته، دون أن نلمس الأرض أبدًا.

القمر يراقبنا لكنه لا يتكلم.

بعد أن طُرِدنا من رحم أمهاتنا، أصبحنا متجولين في أرض متغيرة الأشكال. تتحول الشوارع إلى قوارب ورقية تبحر على أنهار من الزمن المنسي. كانت الطفولة حلمًا، حلمًا تفتت إلى قطع صغيرة جدًا بحيث لا يمكن العثور عليها. نسير عبر مدن من الضباب، حيث تومض السعادة مثل شمعة، تلقي بظلال غريبة على الجدران.

السماء عبارة عن طبقات من الماء، تتلألأ بوجوه أولئك الذين عرفناهم ذات يوم، ولكننا الآن لا نستطيع أن نذكر أسمائهم. السلام بعيد المنال، ينزلق بين أصابعنا مثل الدخان، ويختفي بمجرد محاولتنا الإمساك به.

نبحث عن الطريق، لكنه يتجه إلى الداخل، ويختفي في مركز الأرض. كل خطوة نخطوها هي سؤال - هل نتحرك إلى الأمام، أم أننا نسقط في أعماق الحلم؟ لا توجد إجابات، فقط أصداء خطوات منسية تقودنا إلى لا مكان.

0 التعليقات: