الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 01، 2024

"رأس بلقيس" نص مفتوح : عبده حقي


مفترق طرق تنحني فيه الشوارع كأشرطة، شرائط حمراء وزرقاء، شرائط تتشابك في الريح، في الليل، في أحلام المارة. تنزل قطة مجهولة على سلم دائري، وتنزلق تحت باب عليل ، وتتحول فجأة إلى جناح يحلق في صمت. نسمع ضحكة مكتومة، ضحكة بلا شفاه، ضحكة تهرب من نافذة مغلقة، لتذوب في الهواء الثقيل، وتختفي كفكرة قبل أن تولد.

الرأس، رأس بلقيس العائم، بلا جسد، بلا تاريخ، يتجول في الشوارع الضيقة. تهمس بالأسرار لمن لا يستمع، لمن يمر دون أن يراها. الجديلة السوداء مثل حبر الكابوس، تمتد وتلتف حول أعمدة الإنارة، واللافتات، والأشباح التي تمشي عند الفجر. قطرة عرق تجري على خيط سري، خيط يربط الماضي بالمستقبل الذي لن يأتي أبدًا. تهمس جدران البيوت بكلمات مجهولة، كلمات ضائعة في الضباب، في فجوات الزمن.

يتشقق الرصيف، ويرتفع، ويصبح بحرًا من الحجارة يمتد على مدى البصر. بحر بلا شاطئ، بحر تطفو فيه الزجاجات الفارغة التي تحمل في جوفها رسائل لم تُقرأ أبدًا، والقبلات المسروقة تحت ظل مصباح الشارع الخافت. القمر الهائل الشاحب يعلو فوق السطوح مثل بالون فضي يفلت من يدي طفل نزق. إنها تنير رقصة صامتة، رقصة الصور غير الواضحة، الصور مجهولة الهوية، التي تدور، وتدور، تندمج مع الفراغ، تذوب في موسيقى الكمان الصامت.

ترفع عاصفة من الريح القبعة، القبعة المخملية الأرجوانية، التي تحوم في الهواء مثل فكرة ضائعة. تهبط بلطف على رأس بلقيس المقطوع، الذي يبتسم بلا شفاه، بلا عيون، ابتسامة ليست لأحد. يقترب عصفور، عصفور ذو ريش زجاجي، يغني لحنًا غريبًا، لحنًا ترتعد منه النجوم، وتبكي التماثيل عليه في الساحة العمومية. يستمع الرأس، ويميل قليلاً إلى الجانب، كما لو كان يلتقط همسًا، أو تنهيدة، أو كلمة لم يتم النطق بها من قبل.

تتوقف ساعات البيت، وتنحني أيديها، وتلتف، وتصبح ثعابين فولاذية تنزلق عبر الميناء، وترسم دوائر، دوائر لا تجتمع أبدًا. يقترب رجل مجهول الهوية يرتدي معطفًا كبيرًا من الرأس المقطوع. يمد يده، ويتحرك رأسها إلى الخلف، ويطفو في حركة رشيقة، حركة تخصها فقط. ينفتح معطف الرجل ليكشف عن قلب من ورق، قلب مثقوب بآلاف الدبابيس، قلب ينبض على إيقاع طبل غير مرئي.

يبدأ المطر بالهطول، قطرات غزيرة، قطرات حمراء، قطرات تتفجر عندما تصطدم بالأرض، وتتحول إلى حبات من الدم، إلى بتلات زهور ذابلة. يتجه رأس بلقيس نحو السماء، يفتح عيونًا لا ترى، عيونًا تلتقط الضوء وترفضه، عيونًا تبكي دموعًا غير مرئية. يمر طفل، بكرة في يده، ينظر إلى رأسها، فيبتسم، ابتسامة لا تعني شيئًا، ابتسامة تختفي على الفور، لتحملها الريح أبعد من الريح.

يدق جرس من بعيد، جرس يتردد في الهواء كصدى بعيد، كصدى من عصر منسي. يرتفع رأس بلقيس ، ويطفو نحو الجرس، ويقترب، ويبتعد، ويتردد. تتلوى الشوارع، تنحني، تتكشف، تصير شرائط، شرائط حمراء وزرقاء، شرائط تلتف حول الرأس، تحيط به في شرنقة حريرية، شرنقة لا وجود للزمن فيها، حيث تمتزج الأحلام بالواقع، وحيث تتحول الذكريات إلى سراب.

 

وهناك كلب ينبح، كلب لا صوت له، كلب ذو عيون مشتعلة، كلب يبحث عن شيء لن يجده أبدًا. يطفو الرأس فوقه، يدور ببطء، مثل القمر، قمرًا صغيرًا، قمرًا يضيء طريقًا لا يتبعه أحد. أبواب البيوت تفتح، تغلق، تغلق في الفراغ، أيادٍ غير مرئية تسحب الستائر، ستائر مخملية سوداء تبتلع الضوء، وتغرق الشارع في الظلام.

الرأس، رأي بلقيس لا يزال يطفو، ينفصل عن العالم، يرتفع، ويرتفع حتى يلامس الغيوم، السحب الكثيفة، سحب القطن والريش، السحب التي تغطي المدينة بعباءة الصمت. تحلق عصفورة، عصفورة ورقية، تصطدم بمدخنة، تتفكك إلى آلاف القطع، قطع تتساقط مثل قصاصات الورق، قصاصات ورق تغطي الرأس، تحيط به، تحوله إلى حفلة ، ككرة تتلألأ في الظلام ، كرة تلفت الأنظار وتفقدها في زوبعة من الألوان.

يتوقف الزمن، أو ربما ينهار على نفسه، تاركًا وراءه أثرًا، أثرًا باهتًا، أثرًا تمحوه الريح سريعًا. يستمر رأس بلقيس في الطفو، ويتمايل بلطف، كورقة يحملها التيار بعيدًا، ورقة لا تعرف إلى أين تذهب، ولا تعرف من أين تأتي. لا تزال تتمتم، كلمات بلا معنى، كلمات تائهة في الهواء، كلمات ليست سوى صدى لصوت لم يعد موجودًا.

العابرون، لا يتوقفون، لا يرون، أو ربما لا يريدون أن يروا. يواصل رأس بلقيس المقطوع رحلته، رحلة بلا بوصلة، رحلة ليست واحدة. وفي الهواء، في الصمت، في غياب كل شيء، يستمر في الهمس، يطفو، يختفي بلطف، مثل فكرة لم تخطر على بال أحد من قبل.

0 التعليقات: